لنقرأ التاريخ بمنهجية علمية صحيحة (3-3)
بقلم د. محمد عياش الكبيسي
إن من مهمة الباحث والناقد المنصف التحقق من مراد المتكلّم، خاصة أولئك الذين ارتحلوا إلى آخرتهم، ولم يعودوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم وأفكارهم ومواقفهم، وخاصّة إذا كان الباحث لا يكتفي بالبحث والنقل عنهم، وإنما يريد أن يقضي ويحكم.
لقد شاع هذه الأيام مثلاً اتهام فقهاء الأمة بأنهم كانوا مع ثقافة الاستبداد، لأنهم يجيزون ولاية المتغلّب، وهذه جناية على الأمة وفقهائها، فلا أعلم فقيهاً معتبراً أجاز ولاية التغلّب -هكذا بإطلاق- وإنما المتغلب عندهم باغ وآثم، لكنهم اختلفوا في جواز الخروج عليه بعد تغلّبه، وهو خلاف ليس في الشرعيّة، وإنما في تقدير المصالح والمفاسد، ولم يقل أحد من الفقهاء بمتابعة السلطان والخضوع له في كل ما يقول حتى لو كان عدلاً، فكيف بالمستبدّ المتغلّب بالقوة؟ وها هو الإمام أحمد بن حنبل -وهو أكثر من يشير إليه الناقدون- يرفض أمر المأمون ثم المعتصم -وهما مَن هما- ويخرج عليهما في مسألة «خلق القرآن» حتى سُجن وضُرب، ولقد تعرّض عدد غير قليل من العلماء «الحنابلة» للسجن والضرب ومنهم ابن تيمية الذي توفّي وهو في السجن، أما مواقف الحنفية والمالكية والشافعية من ولاية المتغلب فمعروفة، وهي أبعد عن هذه التهمة أو الشبهة، ويكفي مراجعة كتاب «غياث الأمم» لإمام الحرمين الجويني، وهو المعتمد في هذا الباب.
الغريب هنا أنك تجد اليوم هذه الحملات كلها موجّهة لنقد علماء السنّة، بينما لا تعثر على إشارة لنقد الطوسي مثلاً، وهو المتحالف مع هولاكو، والذي يقول فيه محمد باقر الأصفهاني مادحاً ومستبشراً: «ومن جملة أمره -يعني الطوسي- المشهور.. حكاية استيزاره السلطان المحتشم هولاكو خان، ومجيئه في موكب السلطان المؤيد مع كمال الاستعداد إلى دار السلام بغداد لإرشاد العباد وإصلاح البلاد، بإبادة ملك بني العباس، وإيقاع القتل العام من أتباع أولئك الطغام» (روضات الجنّات ج6 ص300)، فلا شك أن توجيه السهام إلى مثل الشافعي، وأحمد، والغزالي، وابن تيمية، والسكوت عن أمثال الطوسي، والأصفهاني، وابن العلقمي، يعني أننا أمام معضلة أخلاقية، ولسنا أمام مشكلة ثقافية أو فكرية، إلا إذا كان هؤلاء يعتقدون أن هولاكو كان قد حرّر بغداد من المستبدّين العباسيين!
هنالك أمر آخر ينبغي التنبّه له، وهو أن الروايات التاريخية لا يصح قطعها عن الظرف المحيط بها، بأعرافه، وتقاليده، وثقافته العامة، وأدواته، وإمكانيّاته، وعلى سبيل المثال، هناك من يدين العهد الأموي والعباسي، لأنه حكم وراثي، والوراثة -عندهم-تعني الاستبداد ولو كان الحكم بنفسه عادلا ورحيما، والحقيقة أن العرب والعالم كله من حولهم ما كانوا يعرفون في ذلك العصر إلا هذا النمط من الحكم، هذه ثقافة ذلك العصر، فهذا العباس يقول لابن أخيه عليّ -رضي الله عنهما-: «اذهب بنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنسأله فيمن هذا الأمر؟ إن كان فينا علمنا ذلك..»صحيح البخاري، ولم ينكر عليه عليّ، ولم يقل له: إن هذا خروج عن مبدأ الشورى، لأن الشورى في معطيات ذلك العصر لم تكن مرتبطة بمبدأ سيادة الأمة والشراكة السياسية وتداول السلطة..الخ فهذه مصطلحات تشكلت وتطورت مع تطوّر الحياة المدنية، وتطوّر وسائل التصويت والفرز..الخ ومحاكمة ذلك العصر بهذه المعايير لن يقودنا أبدا إلى استنتاج صحيح أو حكم عادل.
(المصدر: صحيفة العرب الالكترونية)