بقلم د. محمد عمارة
كان الشيخ محمد رشيد رضا (1282 – 1354 هـ، 1865 – 1935م) أبرز تلاميذ الإمام محمد عبده (1266 – 1323 هـ، 1849 – 1905م)، ولقد حملت مجلته “المنار” فكر المدرسة الإحيائية الإسلامية إلى العالم الإسلامي على امتداد أربعين عاما.
وكان الشيخ رشيد أول من تصدى بالتفنيد التفصيلي للنزعة العلمانية التي تدعو إلى فصل الدين عن الدولة، ففي 3 آب/ أغسطس 1899م، كتب واحد من خريجي مدارس الإرساليات الفرنسية – في لبنان – مقالا بصحفية “المقطم” وقعه باسم “مسلم حر الأفكار”، دعا فيه إلى فصل الدين عن الدولة، وفصل السلطنة عن الخلافة، كسبيل – حسب رأيه – إلى التقدم والنهوض، فتصدى للرد عليه الشيخ رشيد رضا – بمجلة “المنار” (العدد 25 ربيع الثاني عام 1317هـ مارس 1899م- فقال: إن الزعم بأن الدين والدولة أمران متباينان يجب أن ينفصل أحدهما عن الآخر، هو القول الخبيث الذي لم يخطر في بال إبليس، إنه القول الذي يشير إلى أحكم رأي لمحو السلطة الإسلامية من لوح الوجود، قاتل الله قائله، ولا كثر فيمن يدعون الإسلام من أمثاله..
لقد عرف علماء المسلمين الدين بأنه وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إلى سعادتهم الدنيوية والأخروية، وقواعد الدين ثلاث: 1- تصحيح العقائد، 2 وتهذيب الأخلاق، 3- وإحسان الأعمال.. والأعمال قسمان: عبادات ومعاملات.. ومن المعاملات الأحكام بأنواعها، قضائية ومدنية وسياسية وحزبية..
هذا عن الإسلام.. أما الدين عند النصارى، فهو – منا في “دائرة المعارف” – “عبارة عن مجموعة من النواميس الضابطة لنسبة الإنسان إلى الله، أو يبين صفات تلك النسبة”.. وهو – كما ترى – لا علاقة له بالأمور الدنيوية ولا بالأحكام والسلطة.
ومن المشهور أن الديانة النصرانية مبنية على الخضوع لأية سلطة حكمت أصحابها، لما في الإنجيل من أن سلطة الملوك إنما هي على الأجسام الفانية، وأن سلطة الدين على الأرواح فقط، فيجب على كل متبع لهذا الدين أن يدين لكل سلطة ويذعن لكل شريعة حكمته، بخلاف الدين الإسلامي، فإنه مبني على السلطة والغلب.
إن الدين الإسلامي جامع لمصالح المعاش والمعاد، ومبني على أساس السلطتين الزمنية والروحية، وإن الديانة النصرانية على خلاف ذلك، وإن الخليفة هو رئيس المسلمين القائم على مصالحهم الدينية والدنيوية، وإن كل حكومة تخرج عن طاعته الشرعية فهي منحرفة عن صراط الإسلام، وإن القول بفصل الحكومة والدولة عن الدين هو قول بوجوب محو السلطة الإسلامية من الكون، ونسخ الشريعة الإسلامية من الوجود، وخضوع المسلمين إلى من ليس على صراط دينهم ممن يسمونهم فاسقين وظالمين وكافرين فإن القرآن العزيز، الذي هو أساس الدين، يقرع دائما آذانهم، بل يناديهم من أعماق قلوبهم قائلا بلسان عربي مبين: “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون” (المائدة 44)، “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون” (المائدة 45)، “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون” (المائدة 47).
إن قياس الإسلام على النصرانية قياس مع الفارق، فإن فصل السلطة الروحية عن السلطة الزمنية هو أصل النصرانية، ونحن والنصارى في هذا الأمر على طرفي نقيض، فإن تلونا تلوهم فيه نكون قد تركنا نصف ديننا، الذي هو السياج الحافظ للنصف الباقي، بل إن الدين كله يكون بهذا العمل عرضة للاضمحلال ومهددا بالزوال”.
تلك كانت أولى المعارك الفكرية ضد العلمانية فيلا عصرنا الحديث، والتي اعتبر الشيخ رشيد رضا فيها أن فصل الدين عن الدولة هو القول الخبيث الذي لم يخطر ببال إبليس!
*المصدر : عربي 21