بقلم وائل الحناوي
هكذا حكى لنا ماركيز في روايته “خريف البطريرك” عالم الديكتاتور السحري، ففي “سيمفونية مؤثرة وبحركة دائرية تجمع بين أحداث ماضية وتلميحات إلى أحداث أخرى آتية، حيث يتكرر فيها نفس العزف لآلات الرعب، نفس الأناشيد المتوحشة، نفس الصفير المكتوم المنبعث من فتق خصية بطريرك مستنسخ لكل الأزمان، هي نفس تلك الخاصرة التي كلما ارتفع فيها الزبد ظن الطغاة الجدد أن باستطاعتهم قضم العالم”. (1)
قدم لنا ماركيز بأسلوب يجمع بين الشعر والموسيقى والصورة السينمائية الحية عالم الطغاة الدموي، وجعلنا نلمس الطاغية المستبد بأعيننا، واصطحبنا إلى “الغرف السرية في قصور أولئك الأباطرة الدمويين ليشهدنا على كل ما حدث وهو يقهقه من الفاجعة حد الاختناق، هو زمن الأبدية الهائل، منذ طفولة البطريرك إلى توليه السلطة”. (1)
وكما القصة التي عرضها ماركيز في روايته، هناك عشرات الطغاة الذين وقفوا على رمال الصحراء العربية، وكأن ماركيز يحكي كيفية ظهور الحاكم في بلادنا، فحينما يتولى السلطة، يذبح شعبه ويقيم لهم المجازر ويقذفهم بالقنابل، ويصل إلى ذروة جبروته فيصرخ: “عاش أنا ويموت ضحاياي، ويكتبها خلسة على جدران المراحيض العمومية في زوايا مملكته البائسة، ويطربه سماعها من أفواه الجوعى والمتسكعين والمشلولين والمتسولين على درجات سلم القصر الرئاسي والبرصى تحت أشجار الورد: -انثر على رؤوسنا ملح العافية”، ومن ثم ينتهي مظهر المستبد ليظهر بعده مستبد آخر، وكأن كلماته تردد لحن شعر أمل دنقل حين قال:
“لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كلّ قيصر يموت: قيصر جديد!
وخلف كلّ ثائر يموت: أحزان بلا جدوى..
ودمعة سدى!”
لكن قبل أن يرتكب هذا الحاكم الدموي كل هذا العنف ويصل إلى ذلك الجبروت والتسلط والاستبداد، كيف يخدع الحاكم شعبه، ليتسلق السلطة فوق أكتافهم وهم يهتفون بحياته؟ وما الحيل النفسية والتكتيكات التي يستخدمها المستبد لإطالة حكمه، وإخضاع شعبه وإرهابهم، ليركع له الجميع راغبين أو مضطرين أو مجبورين؟
“وحديٌ أنا أيها الشعب، أعمل وحدي
ووحدي أسن القوانين
وحدي أحول مجرى النـهر..
أفكر وحدي أقرر وحدي.. فما من وزارة
تساعدني في إدارة أسراركم
ليسر لي نائب لشئون الكناية والاستعارة
ولا مستشار لفك طلاسم أحلامكم عندما
تحلمون”
(محمود درويش، من قصيدة “خطب الديكتاتور الموزونة”)
قد تبدو كلمتا “الاستبداد والطغيان” للوهلة الأولى مترادفتين، لكنهما تضعان مقياسا لما يتعرض له شعب تحت حكم فرد واحد لا يشاركه أحد في سلطته، ففي قاموس لسان العرب لابن منظور يرد تحت مصدر “بدد” تعبير: استبد فلان بكذا أي انفرد به. واستبد بالأمر أي يستبد به استبدادا أي انفرد به دون غيره، واستبد برأيه أي تفرد به. (2)
أما عبد الرحمن الكواكبي في كتابه المشهور “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” فيقدم تعريفا آخر للاستبداد يتجاوز التعريف اللغوي ليخترق نفسية المستبد وعقله، حيث يقول: “الاستبداد لغة هو غرور المرء برأيه والأنفة من قبول النصيحة، أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة”، أما على الصعيد السياسي “فالمستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته، ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم”، كما يقول إن الاستبداد “هو تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بلا خوف تبعة”، وإنه “صفة للحكومة المطلقة العنان التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين”. (3)
لكن الكواكبي يذهب إلى أبعد من ذلك، حيث أعدّ وصفة شاملة للاستبداد يشرح داخلها كيف ينمو المستبد وكيف ينتشر الاستبداد في المجتمع كالسرطان بالجسد، فيعدد الكواكبي فئات أربعة من الاستبداد: استبداد الأصلاء من العصبيات، وهو استبداد القبيلة أو العائلة أو المجتمع بشكل عام، واستبداد المتعممين الذين يتحكمون باسم سلطة الدين بعقول الناس وأفئدتهم، واستبداد المال وما يجره من ظلم اجتماعي يكون محميا بقلاع الاستبداد السياسي ضمن التحالف التقليدي ما بين السلطة ورأس المال. ويضع الكواكبي على رأسها الاستبداد السياسي، وهو الأخطر في رأيه والأكثر ضررا، “إذ يجعل الإنسان أشقى ذوي الحياة”. (3)
لكن يعود الدكتور مصطفى حجازي ليشرح أن كل هذه الفئات من الاستبداد على تنوعها “تنبعث من جوهر واحد هو الاستبداد ذاته بوصفه نظاما شاملا يتجلى في مظاهر عدة، ليصبح أسلوبا للحكم وأسلوبا للعيش” (4)، حيث يُعدّ الاستبداد السياسي وما يتبعه من منظومة استبدادية تتحكم في المجتمع مصدر عديد من الكوارث السياسية والاجتماعية، والانحرافات والتدني الأخلاقي، لكن الكارثة الأفجع هي ظهور الطغيان.
“انقضّت العقبان على شرفات القصر الرئاسي خلال نهاية الأسبوع، فحطمت شباك النوافذ المعدنية بضربات مناقيرها، وحركت الزمن الراكد في الداخل برفيف أجنحتها، ومع بزوغ شمس يوم الاثنين استيقظت المدينة من سبات قرون عديدة على نسمة رقيقة ودافئة، نسمة ميت عظيم ورفعة متعفنة، عندئذ فقط تجرأنا على الدخول دون مناطحة الجدران الحصينة المنزوعة الملاط، شاهدنا مركز الحراسة تعمّه الفوضى بعد هرب الحراس، والأسلحة المهجورة في الخزائن، دفعنا بابا جانبيا ينفتح على مكتب مخفي في الجدار، وهناك رأيناه، هو ببذلته الكتانية الخالية من الشارات، ولفافات ساقيه ومهمازه الذهبي على الكاحل الأيسر، كان أكبر سنا من كل الرجال ومن كل الحيوانات القديمة في الأرض وفي الماء، كان ممددا على الأرض وساعده الأيمن منثنيا تحت رأسه على هيئة وسادة مثلما تعوّد أن ينام كل ليالي حياته الطويلة. أدركنا أن من المستحيل علينا التعرف إليه حتى وإن لم تكن العقبان قد نقرت وجهه، ذلك إن أحدا منا لم يسبق له أن رآه قط، رغم إن صورته الجانبية كانت مرسومة على وجه العملة وقفاها وعلى طوابع البريد والمنحوتات الحجرية، كنا نعلم بأنها لم تكن سوى نسخ منسوخة لرسوم سابقة مشوهة في زمن النجم المذنب عندما كان آباؤنا يعرفون من يكون لأنهم استمعوا لروايات آبائهم”.
(خريف البطريرك، غارسيا ماركيز)
هكذا يموت البطريرك في رائعة ماركيز، وما من نهاية سعيدة تسعف الشعب البائس إلا موت الطاغية. لكن الغريب أن بطريرك ماركيز يظل حيا على لسان الرواة على مدى فصول الرواية! فيستمر اللحن الجنائزي بالتعاقب، حيث يتولى خليفته الحكم، وهو لا يختلف كثيرا عنه، فهو نسخة بديلة لكنها أكثر شراسة، حيث هو ليس مجرد مستبد، بل طاغية. (5)
حيث يذهب ياسين الحاج صالح إلى أن الطغيان هو أعلى درجات الاستبداد وأشدها بطشا ومباشرة وفجاجة، “فالاستبداد هو تفرط وتسلط، أما الطغيان فيقوم على سلب السلطة بالقوة، والبغي والظلم والفساد بما يجاوز الحد ويصل إلى مجاورة الكفر” (6).
ويوضح حجازي أن “الاستبداد يجنح إلى الطغيان ولو بشكل خفي في بعض الحالات التي تتهدد فيها السلطة. هنا يضرب الاستبداد مصادر التهديد بدون هوادة متحولا إلى حالة الطغيان”.
ومثل الفرق بين حكم مبارك في مصر وحكم السيسي، يذهب ياسين الحاج صالح في تمييزه بين الاستبداد والطغيان إلى أن “الاستبداد يكمم الأفواه، ويقمع المعارضة، إلا أنه يرتضي من الناس الصمت. حتى لو دمر خصومه، أو سجنهم، إلا أن همه الأول يبقى مركزا على الحفاظ على زمام السلطة. وبعيدا عن منازعته سلطته يترك الناس يفعلون ما يشاؤون، أو هو يترك الناس يقولون ما يشاؤون على أن يفعل هو ما يشاء في ممارسته للسلطة”. (7)
“الاستبداد يترك للناس حيزا مدنيا كبيرا للتحرك، ولا يحاول أن يدمجهم في آلته ما داموا يسلمون له بسلطانه. إنه يتفرد بالحكم والسلطة مع بقاء المحكومين متميزين عن الحاكم، ومستقلين عنه في شؤونهم المدنية. كما أن الاستبداد يحرص عموما على تحصين تفرده بمختلف مظاهر وآليات الحياة السياسية المعروفة من انتخابات ومجالس تمثيلية ومجالس محلية وهيئات مجتمع مدني. إلا أن لكل هذه حدودها في القول والتحرك والممارسة، مما يتمثل في كون السلطة وتفردها الحقيقي على مستوى السياسة والحكم خطا أحمر غير قابل للتجاوز أو حتى التساؤل… فالتحكم قائم وبدون تراخٍ أو هوادة من خلال أنظمة المخابرات والبوليس السياسي ذات الفاعلية العالية التي تستوعب كل ما يجري في المجتمع ضمن شبكة معرفتها ومتابعتها وضبطها المحكم”. (7)
فلو كان للاستبداد خطوطه الحمراء التي لا يسمح بتجاوزها فإن الطغيان “هو نقيض هذه اللعبة. إنه السلطة المحضة، ليس على مستوى الحكم والسياسة وحدهما، بل على مستوى المجتمع ذاته. الطاغية باختصار يفترس المجتمع بما فيه من مؤسسات وهيئات وناس. إنه يلتهم الجميع ولا يقبل أن يترك شيئا خارجه. قوته وسطوته تتغذى من عملية الالتهام المستمرة هذه حتى ليصبح هو البلد والبلد هو. فلا يترك الطغيان أصلا شأنا خاصا للناس، فهو مختص بشؤونهم جميعا يفعل بها ما يشاء، وعليهم أن يتقبلوا مشيئته قانونا لوجودهم، فلا يختلون بشأن من شؤونهم”. (7)
ويعقّب مصطفى حجازي على ما ذهب إليه ياسين الحاج صالح قائلا: “همّ الطغيان الأول ليس ردع خصومه، بل تدميرهم وإفنائهم. إنه لا يكتفي إذا بالسيطرة على الناس من الخارج، بل يريد السيطرة عليهم من الداخل، من داخل ذواتهم على مستوى السلوك والفكر والإرادة وحتى الوعي والكيان. المثل الأعلى للطغيان هو أن يحل في كل إنسان وكل مكان. إنه انحلال للشعب في سلطة الطاغية، بدل أن تنحل السلطة في الشعب، فلا يطيق الطاغية أن يترك شيئا خارج كيانه”. (8)
فهو يُكره الناس على الضحك في أفراحه والبكاء في أحزانه والرقص في أعياده، فالحياة تحت حكمه برنامج للاحتفال الدائم، لذلك فليس هناك شيء حقيقي في ظل الطغيان، “لا الفرح ولا الحزن ولا العمل ولا التمتع، كل شيء احتفال، وكل تلقائية تعتبر بابا للشر” (9)، وهذا ما يجعل البحث في أساليب وأدوات سيطرة الاستبداد والطغيان على حياة وعقول الناس مهمة.
“يحكمنا هنا الأمواتُ .. والسيَّافُ مسرورُ
ملايينٌ من السنواتِ
لا شمسٌ ولا نورٌ
بأيدينا مساميرُ
وأرجلنا مساميرُ
وفوقَ رقابنا سيفٌ
رهيفُ الحدِّ مسعورُ
وفوقَ فراشنا عبدٌ
قبيحُ الوجه مجدورُ
من النهدين يصلبنا
وبالكرباج يجلدنا”
(نزار قباني، من قصيدة “السياف مسرور”)
في مقابلة مع محطة فوكس نيوز، قال ترامب عند سؤاله عن بشار الأسد: “إن بوتين يدعم شخصا شريرا بحق، أظنه سيئا جدا سواء بالنسبة لروسيا، أو للبشرية، والعالم أجمع”، وأضاف: “عندما تُلقي غازا أو قنابل أو براميل متفجرة، أن تُلقي تلك البراميل الضخمة المعبأة بالديناميت وسط مجموعة من الناس ثم تجد الأطفال بدون أذرع أو أرجل أو أوجه فهذا -بكل إنصاف- هذا حيوان”. (10)
لكن يبدو أن ترامب قد ظلم الحيوان بوصفه هذا، فحسب مصطفى حجازي عن “سيكولوجية الطغيان” أو نفسية الطاغية، فتتمثل هذه السيكولوجية في ثلاثة عناصر: نزوة السطوة، والنرجسية، والأنا المثالي التي يقوم بها التحليل النفسي.
لكن قبل توصيف عناصر نفسية الطغيان يفرّق حجازي بين عناصر السطوة في واقع الإنسان وواقع الحيوان. فالكائنات الحية محكومة في سلوكها ونمط حياتها وعلاقتها ببني جنسها، بقانونها الوراثي الذي يجعل منها كائنات ثابتة في تصرفاتها وردود أفعالها وأنماط علاقاتها. (11)
فالعدوانية عند الحيوان محكومة بشروط محددة لا تتعداها، أبرزها أربعة: الصراع على الغذاء، الصراع على التزاوج، حماية الصغار، الدفاع عن مجالها الحيوي، وخارج حدود هذه الحالات لا تمارس العدوانية إلا بشكل محدود واستثنائي. أما الإنسان فهو الكائن الوحيد الذي يمارس الإبادة ضد بني جنسه، وهو الوحيد الذي ينخرط في عدوانية مفتوحة تؤدي إلى كوارث كيانية، حيث يتفنن الإنسان دون ما عداه من الكائنات الحية في ألوان عدوانيته وموضوعاتها ومستوياتها. (12)
وفي حين تُقيم الأجناس الحية فيما بينها مرتبية محددة تنشأ عن صراع القوى في سلوكات تتفاوت في درجة خطورتها، إنما لا تعدو معظم الأحيان أن تكون مجابهات شكلية لفرض السيطرة وقيام مرتبية القوة، وعندها يقوم القوي الذي فرض سيطرته بحماية من هم أضعف منه، يقوم الإنسان باستعباد بني جنسه واستغلالهم، فهو الكائن الحي الوحيد الذي يستعبد بني جنسه. (12)
فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي تتجاوز نزوة السيطرة لديه الحاجة إلى التحكم، وتتحول إلى نزوة السطوة وهي أول عنصر في عناصر نفسية الطغيان. (13) “والسطوة تهدف إلى الاستحواذ على الموضوع والسيطرة عليه بالقوة”، وهي تتجلى حسب لابلانش وبونتاليس المحللين النفسيين في “نزعة قسوة لا تهدف إلى إيلام الآخرين، إنما بكل بساطة لا تدخله في الحسبان”. (13)
“فهي نزوة سابقة على الشفقة والسادية معا، كما أنها قد تكون مستقلة عن الجنسية”، فلا يُدخل المستبد الناس في حسابه إلا كأدوات لخدمة تعزيز سطوته وبسط نفوذه. “هؤلاء هم الحاشية التي تزين له عظمته، وأدوات القمع البوليسي والمخابراتي التي تعزز له قوته وتحكمه، وحلفاؤه الذين يعززون له نفوذه. وأما الناس العقبة فهم كل المعارضين والمشككين والناقدين لسطوته المنفلتة من أي قيود. وحيث إن إنسانيتهم لا تدخل بالحسبان، فإن الحرب عليهم تكون بلا هوادة ولاحدود: الإبادة، الاعتقال.. أما الناس العبء فهم تلك الكتل المعتبرة الزائدة عن الحاجة، أو التي لا لزوم لها، وبالتالي لا اعتراف لكيانها وحقوقها، ولا موقف تجاهها سوى الإهمال والإقصاء، والترك لمصيرها المحروم من فرص الوجود”. (13)
وتأتي بعد ذلك “النرجسية” كي تسند نزوة السطوة وتعززها على مستوى صورة الذات ومفهومها وعلاقتها بالآخر، فالنرجسية تتمثل في “تركيز طاقة الحب” (الليبيدو) في الأنا. ففي الحالات العادية “يتوزع الليبيدو ما بين الذات (محبة الذات وتقديرها) وبين الموضوعات (التعلق بالآخرين والإعجاب بهم والبذل في سبيلهم في الحب والجنس والصداقة وغيرهم) وبين الالتزام بمُثل عليا أو قضايا كبرى مثل النضال من أجل مبدأ أو عقيدة والبذل فيهما”. (13)
وفي الحالة العامة، كما يشرح حجازي، يحدث توازن في توزيع الليبيدو عند الناس العاديين ما بين الذات والآخرين والقضايا العامة، “أما في الحالة النرجسية فيتم سحب التوظيف العاطفي (الليبيدو) من الآخرين ويتركز في الذات وحدها. وبمقدار هذا السحب وذلك التركز تتضخم الذات على حساب الموضوعات التي تتلاشى قيمتها، ويقع النرجسي في حالة العلاقة المرآوية مع الذات التي تنفي وجود الآخر” (13)، وهذا ما يحدث في حالات الطغيان والاستبداد القصوى، حيث لا وجود إلا لشخص الطاغية، ولا واقع إلا واقعه الذاتي.
بيد أن النرجسية لا بد لها كي تستتب وتطلق نزوة السطوة من عقالها من سند داخلي وآخر خارجي، “فعلى المستوى الداخلي الذاتي تتحول النرجسية إلى أنا مثالي، وهو تكوين نفسي داخلي يعرف كمثل أعلى للجبروت النرجسي المبني على غرار النرجسية الطفلية”، وهي تبعا لابلانش وبونتاليس حالة أولية من اتحاد الأنا والهو، “ويعني هذا الاتحاد أن مرجعية الأنا تتحول من الواقع الموضوعي، كما هو الحال عند الناس العاديين، إلى الهو ونزواته التي لا تعترف بالقانون ولا بالحدود أو القيود، والتي تنحو نحو الإشباع المحض، فيصبح الأنا المسؤول عن التوازن ما بين إشباع الرغبات ومراعاة المعايير الأخلاقية واعتبارات الواقع، متحدا بالهو المنفلت من أي قانون والمتنكر للواقع”. (14)
فالجبابرة والطغاة ما هم إلا أطفال ضخمة بماضٍ من الحرمان والأذى النفسي، قد تحول مع الوقت إلى انفلات وجنون عظمة، وإشباع لا نهائي للرغبات، “فهذا الأنا المثالي المنفلت من كل قانون، لا شيء عنده يتكافأ مع عظمته وقيمته المطلقة، وبالتالي لا شيء يمكن أن يقف في سبيل تلك العظمة أو يضع حدا لها”، بل على العكس لا قيمة للناس إلا بمقدار خدمة هذه الحالة الذاتية ورسوخ سطوتها، “فيصبح إلغاء الآخرين إمكانية بديهية لا تردد إزاءها إذا تهددت هذه الصورة المضخمة والممثلة، وعندها يصبح باب التصفيات والهتك والفتك بالناس والخصوم مفتوحا على مصراعيه”.
“لا يَستَطيعُ واحِدٌ
حُكمَ الملايينِ إذا لمْ يَقبلوا حُكْمَهْ
ويستطيعُ عِندما
يكونُ في خِدمَتِهِ جيشٌ وجَنْد رمَةْ .
ونحنُ بالخِدمَةْ .
قِبْلَتُنَا مَعْدَتُنا .. وَرَبُّنا اللُّقْمةْ !
**
أودُّ أنْ أدعو على الطُّغيانِ بالنِّقْمَةْ .
لكنني
أخافُ أنْ يَقْبَلَ ربِّي دعْوَتي
فَتهلِكَ الأمَّةْ!”
هكذا حكى الشاعر أحمد مطر عقدة القضية، فلا حاكم يستطيع حكم كل تلك الملايين إلا إذا خضعوا هم لحكمه، لذلك يعمد الطاغوت إلى خداع شعبه، والتسلق فوق ظهورهم المحنية طوعا لـ “سلطان مخبول” حسب تعبير مطر.
ويمدنا “علم نفس التحكم بالسلوك” بالعديد من المبادئ التي تُلقي الضوء على التقنيات والتكتيكات التي يستخدمها المستبد في التحكم في شعبه وخداعه، بدءا من ضبط السلوك الخارجي ووصولا إلى ضبط الذات والأفكار وحتى النيّات من الداخل، إلى أن يصل الأمر إلى التعلق الرضوخي بالمستبد والإعجاب به (14)، كما انتهى الأمر بونستون أن يحب الأخ الأكبر في رواية “1984” وهو ما يحقق أماني الأخ الأكبر والبطريرك. فإذا كنت تفكر في تنصيب نفسك حاكما، إليك هذه الخطة الرهيبة.
يتعامل المستبد مع شعبه كأنهم قطيع من الحيوانات التي يجب ترويضها وضبط أجسادها، “حيث يتكون سلوك غريزي يؤدي خلاله الشخص الحركات والتصرفات والمهام المطلوبة منه”، وهذا يتطلب تجاوز السلوك الظاهري وصولا إلى تشكيل الإدراك والأفكار والقناعات والعواطف. (14)
ويقدم عالم النفس بافلوف نظريته في الاقتران الشرطي، والتي عرفت استخدامات واسعة جدا في ترويض الجماهير، وغسيل الأدمغة، والحرب النفسية، والإعلانات، حيث يتعلم الكلب في تجربة بافلوف الكلاسيكية أن يستجيب لمثيرات محايدة في الأصل مثل الضوء أو صوت الجرس بالاستجابة نفسها لمثيرات طبيعية مثل الطعام أو الصدمة الكهربائية. (14)
فيقرن بافلوف بين المثيرات المحايدة والمثيرات الطبيعية، فمثلا يقدم الطعام للكلب مع إشعال الضوء، فيسيل لعاب الكلب مع الوقت مع إشعال الضوء وحده، وإذا اقترن صوت جرس كهربائي بصدمة كهربائية على ساق الكلب في المختبر، فإنه سيتعلم الاستجابة لصوت الجرس باستجابة الإجفال والاضطراب نفسه الذي يميز الصدمة. هكذا إذا كنت تنوي أن تصبح حاكما، فما عليك إلا إقامة حفلات التعذيب والصعق الكهربائي إذا اعترض أحدهم، حتى يتذكرون جميعا ما قاله جورج أورويل إن “جريمة الفكر لا تفضي إلى الموت، إنها الموت نفسه”. (15)
لكن عالم النفس سكنر سيقدم نظرية أخرى أكثر تطورا، فنظريته تقوم على مبدأ “السلوك تحكمه توابعه أو نتائجه”، وعليه إذا أردت التحكم بأي سلوك، “ما عليك إلا أن تتحكم في نتائجه. فإذا أردت لسلوك ما أن يتكرر، عليك أن تجعله يؤدي إلى نتيجة إيجابية (مكافأة). وإذا أردت أن توقف سلوكا ما، ما عليك إلا أن تجعله لا يؤدي إلى أي نتيجة، أو يؤدي إلى نتيجة سيئة ومؤلمة”. (15) فعلى ذلك الأساس، ستكون السجون والمعتقلات أماكن لتضييع الأعمار، وقتل أي أمل أو ثقة، وسيكون القتل والتعذيب والإعدام.
هكذا يؤسس المستبد لهيبته ورهبته، حيث يعرض ميشيل فوكو في كتابه “المراقبة والمعاقبة” عرضا مفصلا عن العقوبات الرهيبة التي ينزلها المستبد بالجناة، “إنها ليست مجرد تأديب، أو حتى قتل، بل تفنن بالترويع الذي تشيب له الولدان، وحين يصبح الترويع حتميا لا راد له أو مفر منه، إذا وقع إنسان فيما يعتبر خطيئة تعد تطاولا أو تهديدا لسلطة المستبد يتم الردع والتهديد في الحال”. (16)
لكن يبدو أن هذا لا يكفي لإشاعة حالة “إيقاف التفكير” والاقتراب من حالة “انعدام رد الفعل” والقلق العام الشديد، لذلك سيسلط الطاغية منظومة الاستبداد الحكومية وشبكاتها المجتمعية في إذلال الناس، لخلق حالة عامة من القهر والعجز الشديد، سيتعلم خلالها الإنسان أنه مقهور لا حول له ولا قوة، لا يملك حياته ولا مستقبله ولا رزقه، يقف في طوابير لانتظار كل شيء من رغيف الخبز لقضاء مصلحة، لا يجد ماء ولا دواء إلا بشق الأنفس، حيث كل شيء بيد الحاكم، فيذعن الناس طلبا للرزق والسلامة، ويتولد داخلهم سلطة ردع تنهاهم عن أي فعل قد يتعرضون بسببه لنتيجة مؤلمة. (17)
“كيف يمكن أن تبرهن على أكثر الحقائق جلاء حينما لا يكون لديك أي سجل لها خارج ذاكرتك؟”
(جورج أورويل، 1984)
برغم فاعلية العنف والتهديد والترهيب فإن الوجه العنيف للترويض لا يمكنه ضمان سطوة المستبد واستتبابها، فلا بد له من وجه آخر مكمل يتمثل في الترغيب الذي يوازنه، “فالطاغية ذاته لا يمكنه الاكتفاء بفرض آلة الردع التي تؤدي إلى الاستسلام العاجز، بل هو بحاجة إلى صورة إيجابية تكفل تعزيز نرجسيته وأناه المثلى” وليس ثمة إخضاع كامل كالإخضاع الذي يحفظ مظهر الحرية، لأن المستبد بتلك الطريقة يأسر الإرادة. (18)
فيجب أن يقنع المستبد شعبه أنه أتى لمصلحتهم وتنفيذا لرغبتهم وحفاظا على أمنهم، فيخلع الطاغية القفاز الحديدي والبدلة العسكرية ويلبس قفازا مخمليا وثوبا حريريا (19) ويخفض صوته ويقول لهم: “ألستم نور عنينا؟”.
بيد أن تلك الخطابات الناعمة لا تُؤدى بشكل اعتباطي، حيث تستند إلى أساس نفسي وعلمي متين يستخدمه الطغاة في خداع شعوبهم. فيُعدّ التحكم في الحاجات الكبرى للإنسان، كما قدمها هرم ماسلو للحاجات الإنسانية، هو الأساس الذي يستخدمه الطغاة في تعزيز سلطتهم وخداع شعبهم.
فيأتي في المقام الأول الحاجات الأساسية للعيش التي تحفظ الحياة وتتمثل في الدخل المادي الذي يوفرها. فيعمد المستبد إلى “التحكم في وتيرة إشباعها كي يمتلك تهديد الحياة نفسها بالاستحواذ على طرق كسب العيش، فهي ذات دافع ملزم وتدفع بالشخص حين لا تتوفر له إلى التخلي عن كل معاييره من أجل الحصول عليها، فيتخلى عن إرادته وكرامته ومكانته وكل اعتباره الذاتي”. (19)
لذلك فالخطوة الأولى التي سيتخذها أي مستبد هي “الإهمال والتجاهل والتهميش والحرمان المقنن من أجل كسر مقاومة الناس وإرادتهم واستقلاليتهم، وبالتالي تطويعهم. فتضع الناس بين خيارين: خضوع وتبعية لقاء الإغداق، أو حرمان ونيل من إنسانية الإنسان وكرامته”.
وتأتي الحاجة إلى الأمن في المقام الثاني من حيث ترتيب الأولويات الإنسانية، فيستغل المستبد حالة “الشدة والقلق الرهيب الذي يتعرض له الشعب” ويعدهم بالأمان من الأخطار “والإرهاب المحتمل” لقاء التأييد والخضوع.
لكن هناك خديعة أخرى “شديدة التأثير” في ممارسة لعبة التحكم والترويض وهي عملية تشكيل السلوك، وتهدف هذه العملية في الأصل إلى تشكيل سلوكيات جديدة لا يقوم بها الإنسان حاليا لكنه يمتلك القدرات لممارستها.
هكذا تستخدم الأنظمة الشمولية والاستبدادية ما يسمى “التثقيف الحزبي أو التربية العقائدية لتشكيل سلوك الولاء والطاعة والتبعية والإخلاص للمستبد وصولا إلى سلوك الإعجاب به ورفعه إلى مرتبة المثل الأعلى. فتنشأ أجيال على حب القائد الملهم” (19) أو زعيم الأمة، وترى في محبتها وولائها له ظفرا في الحياة ما بعده ظفر.
وتُعبّر الروائية الصينية يونغ تشانغ عن هذه الحالة في روايتها “بجعات برية”، إذ تذكر كيف أن رؤية ماو أصبحت أمل حياتها وغايتها حين رأت صورته الكبيرة في الميدان خلال أحد المهرجانات الحزبية الذي كان من حظها أن حضرته مكافأة لها على تفانيها، عندها أطلقت صرختها: “عاش قائدنا العظيم، الرئيس ماو”، وقفزت الدموع من عينيها وأخذت تردد لنفسها: “يا لي من محظوظة بقدر لا يصدق أن أعيش في عهد ماو العظيم! كيف يستطيع أطفال العالم الرأسمالي الاستمرار في العيش دون القرب من ماو والأمل برؤيته يوما”. (20)
“نابليون دائما على حق.. نابليون دائما على حق”
(جورج أورويل، مزرعة الحيوانات)
إذا كنت حاكما على شعب فقير يعاني من الحرمان والتهميش والقلق والتوتر، فالحل بسيط: أقم لهم الاحتفالات والأغاني، “فالاحتفالات تمتص التوترات والإحباطات، وبالتالي تلعب دورا حيويا جدا في تفريغ العدوانية واحتقانها. ومن المعروف أنك إذا أردت أن تفرغ عدوانية جماعة ما، وتحول دون تفجر الصراعات ضمنها والتمرد على سلطتها، ما عليك سوى الإكثار من الأعياد والاحتفالات فيها”. (21)
انطلاقا من هذه المبادئ النفسية-الاجتماعية تتم برمجة الناس على عملية من الاقتران الشرطي بين شخص المستبد والأعياد الوطنية، “لحمة الانتماء والتعلق والاعتزاز. ومن خلال هذا الاقتران والحضور الكثيف بصوره وشاراته خلال الاحتفالات حيث تكثر الزينة، وترفرف الأعلام وتعدد اليافطات ويتم التفنن بالكتابات والشعارات، وتزدحم الألوان المتنوعة والمتآلفة خالقة البهجة، فيصبح المستبد هو الوطن، والوطن هو المستبد”. (21)
لكن يجب ألا يتوقف الطاغية عند ذلك فقط، بل يجب أن يدير إدراك الناس بنفسه، حيث تُعدّ إدارة الإدراك من “الأساليب الخطيرة في التلاعب بالعقول وتشكيلها، من خلال الغمر والتكرار الدؤوب، والتزيين والتجميل من خلال مختلف محسنات اللون والصوت والصورة”. (21 )
وعلى مستوى إشهار المستبد وحضوره الكلي، يجب تتبع هذه المبادئ ذاتها في الترويج له وملء المجال الإدراكي للناس، “فيظهر حينا في بزة الجنرال، وأخرى في بزة الأميرال وثالثة بالملابس الرياضية، كما يظهر في اليافطات والملصقات الكبيرة التي تملأ الطرقات والساحات وقد اكتسى ملامح الأبهة”.
وفي كل هذه الحالات يجب الإفراط في استخدام المحسنات من أوسمة ونياشين ونجوم، أو تقلد سلاح، أو ارتداء ثياب تدل على التميز والرفعة. “كما يتم إبراز ملامح الرجولة والبطولة، لتعويض نقصهم وعجزهم وبؤسهم وعقمهم، واستفحال انعدام القيمة الذاتية الذي يحيط بصورتهم عن أنفسهم”، لكن ماذا يحدث ذهنيا وبالتالي فكريا ووجدانيا من خلال آليات الإغراق وإدارة الإدراك تلك؟
يجيب حجازي أن “الذاكرة المعرفية ستتشبع بهذه الصور وتلك الرموز، وسيتم بناء شبكات إدراك عصبي تعزز تلك الذكريات، وهو ما يرسخ الميول والاتجاهات ويغرس القناعات وبالتالي يبرمج السلوك ويروض المواقف”.
ويضيف حجازي أن هناك آلية إضافية يتم تشغيلها لزيادة تأثير السطو على المجال الإدراكي وعلى الأذهان، “إنها آلية حضور الرموز والشارات والصور مع الغياب الجسدي واللقاء الفعلي، فيتخذ الوجود الفعلي للمستبد دلالة بُعد المنال من خلال غيابه، ويفعل بُعد المنال بعده في تكريس الفوقية المتعالية للمستبد بالنسبة للناس”.
حيث يحتل الطاغية المستبد عالم الناس الذاتي ليس كمصدر تهديد وموضوع رهبة، بل كمصدر إعجاب وافتتان وموضوع تعلق، وهو ما يعزز تشكيل السلوكيات والأذهان والأفئدة في آن معا، مما يعزز من هيمنة السطوة.
هكذا، وإن اتبع أي شخص نكرة هذه النصائح بالكامل، بجانب امتلاكه القوة والعلاقات اللازمة، فها قد حصلنا على حاكم طاغية مستبد، فمبارك لنا جميعا!
(المصدر: ميدان الجزيرة)