1-سألنا الأستاذ لماذا كل هذا الحقد الذي يتوجه لابن تيمية؟ هل يعقل بعد شبه الاجماع على كراهيته والحقد عليه أن تبقى تبرئه مما ينسب إليه ممكنة؟
2-لو كان الأمر متعلقا بالحقد عليه وكراهيته لدى سفهاء العامة لقبلنا حجاجك للتشكيك في نوايا أعدائه.لكن أعداءه أغلبهم من الأعيان خلال العصور.
3-أجابنا متفهما تعجبنا: أصبتم عندما “ذكرتم سفهاء العامة”. لكن هل السفاهة مقصورة على العامة؟ وهل اعتقاد البعض بأنهم خاصة صادق دائما؟
4-وحتى لو صح أن الخاصي خاصي بحق فهل الخاصة معصومة خاصة إذا تبين أن الدوافع من البداية إلى الغاية هي لم تتغير وتتعلق بما يقبل الامتحان؟
5-فلو قسمنا مواضع الخلاف إلى ما يمتحن معرفيا وما يمتحن خلقيا فإن كل عصر يمكنه أن ينفذ لمعطيات الخلاف ثم يحكم إن كان بصدق يطلب الحقيقة.
6-تعلمون أن العملية التي تتساءلون عنها لم تكن أول مرة لصالح ابن تيمية بل كانت لصالح أرسطو في دعوى معاداته للرياضيات وصده ترييض الطبيعيات.
7-الحقيقة أنها الأولى بمعنى الرسالة الجامعية لشهادة الحلقة الثالثة “إبستيمولوجيا أرسطو أو منزلة الرياضيات في قول أرسطو العلمي” لكنها الثانية لأن الأولى للماجستار كانت لإنصاف الغزالي من ابن رشد “مفهوم السببية عند الغزالي”
8-وإذن فمحاولة انصاف ابن تيمية من خصومه كانت لنفس الغاية ودائما في المستوى المعرفي. أي أنني حينها لم يكن همي المستوى الخلقي والعقدي.
9-وليس معنى ذلك أن هذا المستوى الثاني ليس مهما بل لأنه لم يكن مطلوب الرسالة ولم يكن الحقد والكراهية ما أصبحت عليه بعد تغول المد الصفوي.
10-وأول مرة بدأت أنتبه إلى هذا التغول في مستوى الاختراق للفكر السني كان لما كتبت محاولة حول السلطان الروحي تعليقا على شفاء السائل.
11-صحيح أن ابن خلدون عالج المسألة باستفاضة من وجهين: مباشرة في نظرية الإمامة وبصورة غير مباشرة في تنكر التشيع في التصوف لاختراق السنة.
12-لكن الجديد الذي بدا لي وكأن ابن خلدون غفل عنه ولعله لم يكن ظاهرة في عصره هو اختراق الأشعرية الحالية من خلال حربها عليه وعلى الوهابية.
13-وكان انتباهي إلى الظاهرة بالصدفة لأني كنت غارقا في بحوث ابستمولوجية يونانية وحديثة ولا علاقة لها بالكلام حتى اطلعت على كلام موقع الرازي.
14-حينها فهمت مدى الاختراق العجيب والسنة تغط في نوم عميق -ونفس الاختراق- صار فلسفة بقيادة الأزهر الحالية وأحد الدعاة الجدد في فيانا.
15-وطبعا لا أنوي الرد على أحد من هؤلاء لأن الأمر لا يتطلب الخوض معهم في الجزئيات بل أريد أولا أن أبين أنهم جزء مما سميناه مليشيات خمسا.
16-بل أكثر هم أبواق المليشيات الخمس -الأنصاف-. ذلك أن خلافات ابن تيمية كانت مع الكبار الذين هم من حجمه وليس مع الصغار ولا حول الصغائر.
17-بحث في الفلسفة والكلام والتصوف والفقه وأصلها جميعا أعني صنفي الآيات التي من قوة 1 أي الآفاق والأنفس والتي من قوة 2 أي القرآن والسنة.
18-وكان كلامه مع أكبر ممثليها والرؤوس لا مع الأذيال والبعبوس. وحتى لا نطيل الكلام فنلرجع كل حججه إلى حجة واحدة هي التي نعتبرها ثورته.
19-كل من تعرض إليهم ابن تيمية من عصره والمتقدم عليه في حضارتنا وفي حضارة اليونان كانوا يتصورون أن الوجود شفاف وأن العقل مطلق النفاذ.
20-إنه قد ترجم فلسفيا وأسس علميا ثورة الرسالة الخاتمة في المستوى الجامع بين بعدي النظر (العلم والإيمان) وبعدي العمل (القانون والأخلاق).
21-وهذه الترجمة والتأسيس هي ما طلبته في إنصافه فلم أُعنَ بالرد على أعدائه أي مليشيات الدعاية الصفوية والهزيمة السنية وأبواقهما الحمقاء.
22-ففيم تتمثل الترجمة الفلسفية؟ إنها خاصية المعجزة القرآنية: مبدأ جامع بين إيجاب وسلب. فأما الإيجاب فالقول بالغيب وأما السلب فالقول بحجبه.
23-ما علاقة ذلك بتأليب الكل عليه؟ ذلك هو السر: فالقول بالغيب يعني أن الوجود ليس كله شفافا. والقول بحجبه على الجميع يعني أن لا وساطة في الإسلام. واضح؟
24-لم يعد بوسع المزيفين للإيمان والعلم والقانون والأخلاق أن يدَّعوا علما لا عقليا ولا لَدُنيا يجعلهم وسطاء بين الإنسان وربه بل كل يأتيه فردا.
25-هذا من حيث الفائدة العملية. لكن الفائدة النظرية هي التي كانت همي الأول: ماذا ينتج عن الإيمان بحقيقة موجودة و محجوبة عن الجميع في آن؟
26-تلك هي الفائدة النظرية التي تنتج عن الفائدة الخلقية: التواضع العلمي الذي يحرر البشرية من سلطان الدجالين كالإمام المعصوم والقطب .
27-ألا يشكك ذلك في عصمة النبي؟ أبدا: النبي معصوم في تبليغ الرسالة والرسالة تشهد لنفسها ليس بالإعتقاد في عصمة النبي بل بفصلت 53. شهادة الرب.
28-لذلك فالمسلم يشهد بالوحدانية ثم يشهد للرسول. نحن نعلم عصمة المبلغ من صحة البلاغ المطلقة لأن العلم النسبي له فضلان: وكلاهما يشهد له.
29-ذلك أن المحجوب من الغيب هو عين ما في الآيات بنوعيها من معجز لا يستوفيها أي علم فيعلم المرء في آن الحقيقة وتعاليها عليه وذلك هو الاعجاز.
30-إذا كان ابن تيمية قد فعل بهم كل هذه الأفاعيل فإنه يبدو وكأنه قد “قطع رزقهم” ومورده الدجل وادعاء علم مطلق عقلي أو لدني وهما كذب محض.
31-وأقف عند هذا الحد لأن ما فوق ذلك من المغلَّقات المعرفية والمنطقية وقد خصصنا لها من الدراسات ما اتهمنا بما نعتز به: فلاي توكس الذباب.
32-ولنكتف بمثالين: كتب ابن تيمية الرد على من إلتقاهم في الاسكندرية من المعجبين بمنطق أرسطو (طبعا المقصود بعض الرشديين من الحجيج ربما).
33-وكان ابن تيمية من أفضل من درس تفسير ابن رشد الأكبر للميتافيزيقا وكتاب مناهج الأدلة في الرد على الأشاعرة أي إنه قرأ كتابيه الأساسيين
34-فكان رده على غاية ما بلغه الفكر الفلسفي القديم في قراءته الوسيطة. وإذا به يكتشف الثغرة -ما كان يُظن السلاح الأهم في هذا الفكر-: المنطق الأرسطي.
35-اكتشف أنه مشروط بفرضيتين كلتاهما لا دليل عليها: شفافية الوجود ومطابقة قوانينه لقوانين العقل. وهذا يفترض أن الإنسان مقياس الوجود.
36-إذن في الحقيقة اعتماد المنطق يقتضي القول بالهيلومورفية اليونانية وبالإنسان مقياس الوجود: إذن سذاجة معرفية تقيس الخَلق على تقنية بدائية.
37-وقد نقبل ذلك طريقة للتعامل مع الطبيعة. أما أن نتصور أن الطبيعة تعمل مثل الاسكافي أو مثل البناء فهذا ليس سذاجة معرفية فحسب بل بلاهة.
38-عم المنطق في الكلام والفلسفة والفقه والتصوف (واللدني خدعة فابن عربي مثلا وهو من كبارهم متكلم بخرافات الفكر اليوناني الفلكي المنحط).
39-فباتوا هم وخاصة المتشبهون بهم يدعون علما مطابقا لحقائق الوجود ويريدون بالتأويل رد النقل إلى العقل عند التعارض:ت ماما كوقاحة الأنصاف.
40-فكيف لا تريدهم أن يحقدوا عليه وأن يكرهوه وهو لم “يقطع رزقهم” المبني على الدجل فحسب بل قوض عليهم بيوتهم الخربة التي كانوا يتصورونها علما.
41-سيقول القائل: لكن هذا يصح على المستفيدين من الدين ومن العلم القديم. فما بال العلماني والماركسي والليبرالي ينقم عليه؟ والجواب يسير.
42-أبدأ بالماركسي وليكن أكثرهم هرجا: ناصر حامد أبو زيد. خرافة العلاقة بين النص والواقع بالمعنى الماركسي من يصدقها اليوم إذا كان حقا مطلعا؟
43-لا يوجد ماركسي محترم في الغرب ما يزال معتقدا بهذه الخرافة. إذن بفكر متخلف يريد الجماعة الظهور بمظهر الفلاسفة المجددين: تجار روبافيكيا.
44-ما من أحد من ماركسيي العرب وعلمانييهم وليبرالييهم يمكن أن يضاهي نفاذ فكر ابن تيمية لأسس الفلسفة الغربية الحديثة لأنها بالجوهر يونانية.
45-صحيح أنهم ربما أقدر على التسويق لأنفسهم بما يشنف آذان أعداء الإسلام سواء في الغرب (ومنه علماء منصفون) أو من المليشيات صانعة النجوم.
46-المثال الثاني: سأل ابن تيمية الرازي سؤالا في الدرء يمكن ترجمته بلغة حديثة: ما يعارض النقل هل هو ملكة الإدراك العقلي أم مضمون المعرفة؟
47-لا يمكن أن تكون ملكة الإدراك لأنها مشتركة بين النقل و العقل. ماعدا ذلك يجعل العقل قاضيا ومتقاضيا.فبأي سلطة يقضي بصحة مضمونه ليَرُد إليه النقل بالتـأويل.
48-وبذلك يعيدهم ابن تيمية إلى وهم شفافية الوجود المطلقة للعقل ونفي الغيب وادعاء أن قوانين العقل الإنساني هي قوانين الوجود. عين السذاجة.
49-وهذه السذاجة صاغها ابن خلدون بعبارة جميلة: رَدُّ الوجود إلى الإدراك. فتفهم سذاجة حلف جل العلمانيين والليبراليين مع الاستبداد والفساد.
50-وليس معنى ذلك أنك لا تجد من التيميين من هم حلفاء الإستبداد والفساد. فما أكثرهم.لكنهم يدعون التيمية كذبا: لا يمكن لتيمي أن يمول السيسي.
51-أولا لأن ذلك يناقض فلسفته وأخلاقه وتاريخه وثانيا لأن ذلك دليل غباء وهو يشتعل فطنة: فمن يمول العسكر لا يأمن تشجيع الانقلاب عنده حتما.
52-كيف لمن يدعي التتلمذ في مدرسة تنتسب لابن تيمية أن يحالف الطغاة ويمول الانقلابات والفساد والإسلام يوجب الانحياز إلى العدل والشرعية ؟
53-لذلك فلست أعمم على العلماني والليبرالي بل لا استثني كل من ينتحل هاتين الصفتين أو صفة التيمية: فابن تيمية حياته نضال قلبا ولسانا ويدا.
54-كما أني لا أتشدد في لوم الساسة لأنهم يستتبعون النخب في الدعاية ويستتبعهم النخب في سوء النصيحة. فيتبادلون الفوائد التي هي مصائب الأمة.
55-لذلك فلا أتصور أن ابن تيمية مكروه من النخب وحدها بل هو مكروه أيضا من موظيفهم. ولعلهم يشجعونهم على تشويهه تقربا من حماتهم ورعاتهم.
(المصدر: موقع البروفيسور أبو يعرب المرزوقي)