مقالاتمقالات مختارة

لماذا يعارض المثقفون الإسلاميين ويسالمون المستبدين؟

لماذا يعارض المثقفون الإسلاميين ويسالمون المستبدين؟

بقلم محمد جلال القصاص

في المشهد السياسي والاجتماعي ظاهرة تبدو غريبة، وهي أن دعاة (التنوير) لا يمارسون معارضة حقيقية للنظم الاستبدادية، وهذا يخالف أصل نشأة فكرة (التنوير) التي هي ثورة على الظلم والاستبداد الديني والسلطوي، فعمليًا لا يظهر (التنوير) إلا في إطار معارضة الإسلاميين ومعاونة النظم المستبدة عليهم، فلم؟، لم لا يستقيم هؤلاء على قواعدهم ويعارضون الاستبداد؟! كانت حركات التجديد في الأمة داخلية تتكئ على قواعد الشريعة كأساس نظري وتستهدف إصلاح ما فسد في واقع الناس. فمنذ كانت الأمة الإسلامية وهي تتعرض لموجات من الهبوط والانحدار الاجتماعي والسياسي والعسكري، ويرسل الله من عباده المخلصين من يجدد للأمة دينها، ويتم التجديد سياسيًا وعسكريًا واجتماعيًا من داخل الأمة وبناءً على كلياتها العقدية وحاجاتها الاجتماعية، وبأيدي علمائها وساستها وأهل الرأي والحل والعقد فيها، إلى أن اتصل الغرب بالعالم الإسلامي:

وأهم ذلك الاتصال الدبلوماسي والتعليمي بالخلافة العثمانية في إسطنبول مع بداية التحديث في الدولة العثمانية في نهاية القرن السابع عشر وبداية الثامن عشر، وما تبع الحملة الفرنسية على مصر من تواجد خبراء أجانب ساعدوا في وضع أسس الدولة القومية الحديثة، ومن بعثات علمية. هذا التواصل أجهض آخر محاولة للتجديد الداخلي والتي كانت مصدها-في مصر مثلًا- الأزهر وعلى قواعد الشريعة (رصدها الجبارتي في تاريخه ولم تخمد إلا بعد قيام الدولة القومية واستقرارها في مصر بعد الاحتلال الإنجليزي بعقود)، ومن يومها بدأ التغيير من خارج القواعد النظرية الإسلامية. من يومها بدأ ما عرف بالتحديث وتحرك في مسارين:

الأول: عسكري استجلب النموذج العلماني في الحكم (الدولة القومية).
والثاني: جاءت به نظم الحكم الجديدة التي حكمت بالدولة القومية بالتعاون مع الدول الغربية التي احتلت العالم الإسلامي، وهو التحديث في المجال القيمي والثقافي، ما يعرف بـ(التنوير)، ف(التنوير) خرج من تعاون مشترك بين الاستبداد والاحتلال الغربي، هم الذين صنعوه عن طريق البعثات العلمية التي استهدفت بداية تطوير المجال العسكري ثم اتجهت إلى تغيير المجال الثقافي (القيم الحاكمة لسلوك الأفراد والمجتمع). والهدف الكلي هو أن نستورد التحديث الغربي ولا نعود للتحديث على قواعد الشريعة مرة ثانية. ووضع النموذج الغربي مثالًا، أو هدفًا للنخبة المثقفة.

واتكأت نخبة (التنوير) على أدوات الاستبداد والغرب. بداية من الشرعية المجتمعية (الألقاب العلمية) ومرورًا بالنفوذ المجتمعي والسلطوي عن طريق تمكينهم من الوظائف ذات الطابع التنفيذي مثل الوزارات والإدارات العليا والرواتب المرتفعة، وانتهاءً بتمكينهم من التوزيع القهري لقيم (التنوير) من خلال منظومة التعليم الحديث. ولذا أصبح كثير من علماء (التنوير) رأسماليين وأصحاب نفوذ اجتماعي على خلاف حال أسلافهم في الغرب وفي كل زمان ومكان، وذلك لأنهم جزء من السلطة الحاكمة، مقربون من فرعون، وليسوا قادة تغيير وتطوير للمجتمع في اتجاه حريات اجتماعية.

إن الاستبداد منظومة بعضها سياسي وبعضها عسكري وبعضها مثقف وبعضها يظهر تدينًا ويتحدث باسم الدين.. حالة من التعاون بين السلطوي المستبد والمثقف الذي يعاونه على بعض خصومه لقاء مبلغ من المال أو نفوذ اجتماعي أو توافق منهجي. اتكاء المثقف كليةً على أدوات المستبد الإعلامية والنظامية تجعله في حالة تبعية مطلقة ولذا لا يستطيع أن يتحرك ضد السلطة إلا فيما تسمح به السلطة، لا يستطيع المثقف أن يمارس معارضة حقيقية تثمر تغيرًا وإنما بعضهم يظهر معارضة شكلية تمثل أحد أشكال الحفاظ على النظم المستبدة. ولا يتصور خروج المثقف المعاصر على السلطة. ببساطة لأنه قد تم تكوينه بأدوات الدولة الحديثة وأدوات الاحتلال والهيمنة الغربية، ومن يظهر منه الاعتراض يسحب من المنظومة حال الإعداد، ومن يتمرد بعد الإعداد تسحب منه الأدوات (الوظيفة، والمنبر الإعلامي).

ولذا لا يتصور وجود المثقف (التنوير) إلا متوافقًا مع السلطة وضد الإسلاميين عدوهما المشترك. ولذا فإن حركات التغيير الحقيقية من الحالة الإسلامية فقط، وما سواها هو تغيير جزئي لا يخرج عن إطار الاستبداد. بل بشكلٍ ما يدعمه ويحافظ عليه، وفي أحسن الأحوال يمارس تغيير جزئي لا يكفي لإخراج الأمة من حالة الذل والتبعية التي تعيشها للآخر من الغربيين والشرقيين والشماليين.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى