لماذا يخاف المستبدّون من جنازات معارضيهم؟!
بقلم محمد خير موسى
بعد أن قتل الحجّاجُ عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أمرَ بصلبه منكّسًا بلا رأسٍ على جذعٍ في مكّة؛ حتّى مرّ ابن عمر رضي الله عنهما فوقف أمام الجثمان وقال: أما آن لهذا الرّاكب أن ينزل؟! فبلغ ذلك الحجّاج فأمر بالمسارعة بإنزاله ودفنه دون جنازة.
ومن ذلكَ الزّمن إلى يومنا هذا وكانت آخر الحالات ــ ولن تكون الأخيرة بطبيعة الحال ــ جنازة النّائب حمدي حسن الذي قضى في سجن العقرب يوم الخميس 25 تشرين الثّاني “نوفمبر” 2021م أي قبل بضعة أيام ومنعت صلاة الجنازة عليه إلّا لستة أشخاص وأمر السيسي بدفنه بصمت؛ ما تزال السلسلة طويلةً مستمرّة من تعامل الطّغاة مع جثامين الشهداء ومن سلوك القاتل مع من يقتلهم؛ هذه السّلسلة التي تدفعُ إلى سؤالٍ كبيرٍ هو؛ لماذا؟!
لماذا يتعاملُ الطاغية مع من قتلهم بهذا الأسلوب فيمنع جنازاتهم ويحرص على أن يمرّ كلّ شيءٍ بصمتٍ تام؟!
لماذا يأمرُ الحجّاج الذي قصف الكعبة بالمنجنيق وبسط سيطرته بالقوّة من جديدٍ على مكّة بالمسارعة إلى دفن جثمانٍ مقطوع الرّأس دون حضور أحدٍ في جنازته؟!
لماذا يأمرُ الملك فاروق بمنع حضور أحدٍ جنازة الإمام حسن البنّا بعد قتله؛ فلا يحمل نعشه إلى مثواه الأخير غير نساء بيته؟!!
ولماذا يخفي عبد النّاصر جثّة سيّد قطب بعد إعدامه ويمنع صلاة الجنازة عليه وعلى العشرات ممن أعدمهم في سجونه؟!
ولماذا يخفي حافظ الأسد جثامين الذين أعدمهم في أقبية الفروع الأمنيّة وفي سجن تدمر فلا يسلّمهم لأهليهم ومن تمّ تسليمه منهم يؤمر بدفنه ليلًا دون حضور أحدٍ من النّاس؟!
ولماذا يمنع بشّار الأسد جنازات الذين أعدمهم خلال عشر سنوات من ثورة الشّعب السّوري؛ فلا يسمح لأحدٍ من أهليهم بحضور جنازاتهم ولا معرفة أماكن قبورهم، وأكثر ما يمكن أن يمنّ به عليهم هو شهادة وفاةٍ تثبت مفارقتهم للحياة؟!!
ولماذا يمنع السّيسي جنازة محمّد مهدي عاكف ويأمر بدفنه في منتصف الليل تحت حراسةٍ أمنيّة مشدّدة؟!
ولماذا يمنع السّيسي جنازات الشّباب الذين يعدمهم في قضايا مفتعلة، ولا يسمح للنّاس بتشييع جثامينهم أو الصّلاة عليهم؟!!
ولماذا عندما تتصفّح سيرَ الطّغاة والمجرمين مع معارضيهم الذين قاموا بقتلهم وإعدامهم تجدهم يمارسون الفعل ذاته من منع الجنائز والصّلاة عليها؟!
أليسَ القوم قد ماتوا وزالَ خطرهم؟!
أليسَ الطّغاةُ قد حقّقوا منيتهم بالقضاء على من عارضهم وجابه جبروتهم فها هو الآن جثّة هامدة لا حراك فيها؟!
اطمئنانٌ أم فزع؟!
مخطئٌ جدًّا من يتعامل مع حالات منع الجنائز والصّلاة عليها على أنّها حالات اطمئنان يورثُ تحكّمًا وتسلّطًا، بل هي من أجلى المظاهر على الفزع الذي يعشش داخل وجدان الطاغية فينعكس في هذا النّوع من السّلوك.
إنّ ما يفعلُه الطّغاة من منع للجنائز وحظرٍ للتّشييع وحيلولةٍ بين الموتى وبين أكتاف النّاس لتنقلهم إلى قبورهم ما هو إلّا تعبيرٌ جليّ عن الرّعب الذي يعيشُه الطّاغية من الجماهير.
وقد جلّى هذا المعنى عبد الرّحمن الكواكبي في “طبائع الاستبداد” إذ يقول: “إنَّ خوف المستبدّ من نقمة رعيته أكثر من خوفهم من بأسه؛ لأنَّ خوفه ينشأ عن علمه بما يستحقُّه منهم، وخوفهم ناشئٌ عن جهل؛ وخوفه عن عجزٍ حقيقي فيه، وخوفهم عن توهّم التّخاذل فقط؛ وخوفه على فقد حياته وسلطانه، وخوفهم على لقيمات من النّبات وعلى وطنٍ يألفون غيره في أيام؛ وخوفه على كلِّ شيء تحت سماء ملكه، وخوفهم على حياةٍ تعيسة فقط.
كلما زاد المستبدُّ ظلماً واعتسافاً زاد خوفه من رعيّته وحتّى من حاشيته، وحتى من هواجسه وخيالاته. وأكثر ما تُختم حياة المستبدِّ بالجنون التّام”
هشاشة الشرعيّة أمام استفتاء الجنازات
وهذا الرّعب دلالةٌ على الهشاشة؛ هشاشة المستبدّ وهشاشة كيانه، ولا دلالة على قوّة النّظام كما قد يتوهّم المتابع للصّورة بظاهرها لا حقيقتها.
وهذا ينبغي أن يكون دافعًا للجماهير إلى التّعامل مع هذا الفزع والرّعب بما يزيده ويؤججه لا بما يزيلُه ويحيلُه طمأنينة وراحةً واسترخاء، فأشدّ ما يرهب المستبدّ أن يهزمه ميتٌ في استفتاء شعبيّ، واستفتاء الجنائز أصدق ألف مرّة من صناديق المستبدين.
وإنَّ ما يؤجّج رعب الطّاغية أن يرى في الموتى وقود حياة النّاس، وفي الجثامين شراراتٍ لحريقٍ لا يهدأ إلّا بالتهامه، وفي المشنوقين خطباء ثورة ومسعّري انتقام وثأر.
فكم من جنازةٍ نفثت في النّاس روح ثورةٍ لا تخمد، وأيقظت في الشّباب همما تتقاصر دونها الجبالُ الرّاسيات، فأحالت حياة الطّاغية حصيدًا كأن لم تغنَ بالأمس.
إنَّ الأقدام التي تتأرجح فوق رؤوس القتلة عند منصّة الإعدام، ترعبُ المجرم فيرى نفسه صغيرًا وضيعًا ينظر للأعلى فلا يكاد يبلغ برأسه حذاء من قتلهم.
وعلى الشّعب أن يتعامل مع المعلّقين على أعواد المشانق وقد منع الطّاغية جنازاتهم كما تعامل الشّاعر أبو الحسن الأنباري عندما وقف أمام جثمان “ابن بقيّة” المصلوب الذي قتله عضد الدّولة فكتب قصيدته البديعة التي قال فيها:
علوٌّ في الحياة وفي المماتِ
لحقٌّ أنت إحدى المعجزاتِ
كأنَّك قائمٌ فيهم خطيبــًا
وكلّهمُ قيامٌ للصّلاةِ
وما لكَ تربةٌ فأقول تُسقَى
لأنّك نُصبُ هطْلِ الهاطلاتِ
فلتسمع الشّعوب خطبَ الجثامين التي لا جنازات لها وهي تقول لهم: لا تقتلونا مرّتين برعبكم من الطّاغية الذي تتقطّع أوصاله رعبًا منكم وأنتم لا تشعرون.