لماذا يحاكمون الصحوة؟
بقلم إحسان الفقيه
«إن حرية الرأي هي حارس العدالة في الشعب، والسياج الذي يكف الحاكم أن يستبد به بأمور الناس.. ولا قيام لحكم الطاغية إلا على الأذهان الممسوخة والأفكار الراكدة البلهاء، والحَجْر على ذوي الرأي أن ينظروا إلى الأمور إلا من الزاوية التي يراها لهم الطاغية.. وقد أدرك فرعون مصر قديماً تلك الحقيقة، فأعلن إلغاء حرية الرأي بقوله: (ما أُريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)». تلك كلمات الشيخ الغزالي عن حالة استعداء أهل الحكم من الدعوات التي تعيد للأمة رشادها وألقها، فاختارت القمع والتجهيل والتضليل وسيلة في تثبيت عناصر حكمه وتحقيق رؤاه دونما معارضة أو اختلاف.
ومنذ صعود نجم ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لواجهة القيادة السعودية، وامتلاك زمام الأمور على أرض الواقع، حتى وعد باجتثاث الصحوة الإسلامية من جذورها، بعدما كانت ركنا أصيلا في البلاد، تُفتح لها الأبواب، وتهيأ لها الإمكانات والمقدرات للنجاح والعمل، لتغدو اليوم التهمة والعدو الأول في البلاد، ضمن الرؤية والعهد الجديد.
وفي الوقت ذاته، بدأ صعود نجم التيار الليبرالي الموالي للعاصمة أبو ظبي، لتدخل الحركة الليبرالية في مرحلة الهجوم الصريح، فلم تترك جهدا لشيطنة تيار الصحوة الإسلامية ورموزها، والدعوة لاجتثاثهم وتطهير البلاد منهم، في سلوك إقصائي لا يعبر عن المرتكزات الدُّنيا التي ينادي بها هؤلاء القوم، من التعددية والقبول بالآخر وحوار الأفكار للأفكار، حتى غدا أغلب علماء ومفكري الصحوة، إما سجينا في غياهب الجُب ينتظر مصيره المجهول، أو أسيرا للصمت والتسليم بالتوجهات الجديدة للنظام.
فانطلقت المحاكمات والاتهامات، مع تنامي تقارير صحافية تُشير لنية النظام تنفيذ أحكام الإعدام ببعض العلماء، في تُهم كانت في السابق برعاية النظام نفسه، حتى باتت اليوم في العهد الجديد من المحظورات التي تستوجب العقوبة. وهنا تعود بنا الذاكرة لتلك الفترة التي نشأت فيها الصحوة برعاية حكام المملكة، في بداية الثمانينيات، وما قبلها ودمجهم في المجتمع السعودي ومؤسساته؛ تلك الفترة كان ملوك المملكة يعلنون تفاخرهم واعتزازهم الدائم برعايتهم وخدمتهم لتطلعاتها وغاياتها، ومنها ما تحدث به الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله، بأن الصحوة ساهمت بتنوير بصائر المسلمين، ووُجدت لنشر العقيدة الإسلامية الصحيحة في بلاد الحرمين وبلاد المسلمين، وأنه دعم توجهاتها لما تحمله من خير ونور لقلوب العامة والخاصة، وهو ما تحدث به الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه ﷲ بأن «هذه الصحوة التي تُسِرّ كلّ مؤمنٍ، ويصحّ أن تُسمّى حركة إسلامية وتجديداً إسلامياً ونشاطاً إسلامياً، يجب أن تُشجع وأن توجه إلى الاعتصام بالكتاب والسنة»، وهو ما أيده كذلك كلام الشيخ ابن العثيمين رحمه ﷲ: «إن الناس قبل نحو عشرين عاما لا تكاد تجد في المسجد من الشباب إلا اليسير، أما الآن ولله الحمد فأكثر من في المساجد هم من الشباب، وهذا يؤذن بمستقبل زاهر لهذه الأمة.. ليس هذا في السعودية وحسب، بل في عموم البلاد الإسلامية، وهو ولا شك من نعم ﷲ عز وجل، إن المستقبل لهذه الأمة، لشباب الصحوة فيه دور كبير، لإنقاذ المجتمع والدفاع عنه وعلى الحكام أن يراعوا هذه الصحوة، وأن يعرفوا قدرهم».
فما الذي حدث؟ ما الذي تغيّر؟ ولماذا يحاكمون الصحوة اليوم؟ وقد كانت بالأمس فخرا ووساما يعتز به الجميع، حتى بدأت الفضائيات في سباق محموم لوضع كل نقيصة أو مصيبة فيها وفي رموزها، على أنها اختطفت من الناشئة شبابهم ومستقبلهم، وعن أي شباب تبشرنا به هذه الفضائيات، عن ذلك الشاب الذي لا يراعي القيم الإسلامية، ولا يحترم العادات والتقاليد، والذي ينادي بالانفتاح نحو الانحلال من كل المبادئ والقيم الإسلامية والمحاذير التي قد تودي بالمجتمع الى المهالك، تحت عناوين الحداثة والتنوير الزائف. لماذا يحاكمون الصحوة؟ وقد كان الدعاة قديما يتفاخرون بالانتماء لها، والمُضي تحت ظلالها ورؤاها، حتى انبرى كل المتساقطين منهم على الطريق ليعتذر عن عمله معها، والاعتراف بفقدان بوصلة الحِكمة والتيه في مبادئها وأفكارها، والمناداة بالدين الجديد الموافق لرغائب الحاكم وهواه، وآخر يتفاخر بأن الإلحاد عقيدة لا بد أن تُحترم ورغبة لا بد أن تُقدر، ولك أن تتفاجأ بأن هذا الخطاب ارتفع من بلاد «مهبط الوحي والرسالة». لماذا يحاكمون الصحوة؟ لأنهم يخشون أن تستمر رسالتها في التمسك بالعقيدة الصحيحة والمناداة بالعدالة الاجتماعية وتحكيم الشريعة السمحة، وبناء جيل ينتمي لإرثه التاريخي ويعتز بقيمه الإسلامية. لماذا يحاكمون الصحوة؟ لأنها القوة الوحيدة بعد ﷲ القادرة على كشف زيف الدعوات التغريبية وغاياتها المشبوهة والمسمومة، التي لا تريد خيرا بشباب الأمة وفتياتها، ليغدو الواحد منهم خليطا من التناقضات، فاقدا للرؤية، تائه الهوية، فلا هو نحو الابتكار انطلق، ولا إلى الأصالة استقى من عبيرها وعبق، فلا أرضا أبقى ولا ظهرا قطع.
لماذا يحاكمون الصحوة؟ لأن المنطقة بأسرها من المحيط إلى الخليج تمر بتغيرات جيوسياسية كبيرة، تحتاج إلى تغيير في البنية الفكرية لمجتمعات المنطقة، وعلى رأسها السعودية، لتمرير رؤية تطبيعية تقبل بوجود الكيان الصهيوني كدولة جوار معترف بها، وتتعايش معها الأنظمة والشعوب على حساب المقدسات والتضحيات، وحق الشعب الفلسطيني في استرداد أرضه التاريخية كاملة، فكان لزاما تهيئة الأجواء مبكرا لهذه التوجهات الجديدة، لاعتقال كل الأصوات التي قد تعارض المشروع الجديد وصفقته المقبلة. لماذا يحاكمون الصحوة؟ لأنهم يريدون خطابا لا يعترف بحق الشعب الفلسطيني بمقاومة الاحتلال الصهيوني، واعتبار كل أشكال المقاومة إرهابا، لا بد من كبح جماحه وإنهائه، كما يريدون من المحيط الجغرافي القبول بالحلول التي ستُعرض عليه، كمبدأ مقايضة الأرض مقابل المال، والاستقرار مقابل الدولار، وهُم يعلمون أن خطاب الصحوة لا يقبل بهذه الأطروحات الخائنة جُملة وتفصيلا. لماذا يحاكمون الصحوة؟ لأنها تنادي بحق الشعوب في التعبير عن رغباته بالتغيير، والمطالبة بتقاسم القرار والثروة، والإشراف عليها، وأن الشعوب ليست قاصرا لا تدرك حاضرها ومستقبلها، كما يراد تصويرها بذلك في الرأي العام؛ فالخطاب المسموح به اليوم هو لمنابر ودعاة الجامية المنادية بالطاعة المطلقة للحاكم، ولو على حساب التنازل عن المبادئ والمعتقد، والرضوخ لليبرالية المتصهينة. لماذا يحاكمون الصحوة؟ لأنها ترفض دعم الانقلابات والاستبداد الذي نزفت دماء بريئة على ثرى أوطانها، مطالبة استرداد البلاد من الفساد الذي استشرى في جسدها كما الداء في البدن، فبدل أن تلقى الإعانة والاستشفاء، لاقت المناصرة لاجتثاث كل جميل فيها وتمزيق أحلامها.
ولكن وقفة هنا لمن تصدروا محاكمة الصحوة اليوم، والذين لا يدركون أن الأفكار والدعوات لم تُبنَ يوما على الأشخاص بقدر قربها من صواب الرسالة وإيمان الأفراد بها، وأن كل ما يحدث اليوم إنما هو مرحلة ابتلاء وتمايز وتمحيص، وسيعقبها بإذن ﷲ عودة أصيلة للجذور، لأن الصحوة الإسلامية نبت طيب، أصله ثابت وفرعه في السماء يؤتي أُكله كل حين بإذن ربه، ولن نفقد الأمل، وسننتظر إشراقة الفجر معا، وما ذلك على ﷲ بعزيز، كما أنادي جميع التيارات الإسلامية اليوم نبذ الفرقة والاتحاد أمام هذه الهجمة الممنهجة، والترفّع عن الخلافات التي لا تعدو إلا ترفا فكريا أو شيئا يمكن إعادة النّظر فيه لاحقا، فالأمانة اليوم أكبر حجما وأثقل حملا، فاستعينوا بالصبر والتعاون على البر والتقوى ووحدة الصف والكلمة، وﷲ غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
(المصدر: هوية بريس)