مقالاتمقالات مختارة

لماذا نصوم؟ نظرة مقاصدية في عبادة الصيام

بقلم سامي فسيح

إن التدبُّر في حِكَمِ ومقاصد تشريع العبادات من الأمور التي تعين العبد في التقرب إلى الله عز وجل على الوجه الذي تحصل به الفائدة، ويُعلم به مراد الله سبحانه وتعالى من تشريعه، ولذلك دعا علماءنا الكرام إلى قراءة النصوص بنظارات مقاصدية حتى يكون ذلك معينا في تدبرها وفهمها وفقا لمراده سبحانه، ولذلك قال فقيه غرناطة المقاصدي الإمام الشاطبي رحمه الله (توفي سنة 790 هـ) في موافقاته : “التدبُّر يكون لمن التفت إلى المقاصد، وذلك ظاهر في أنّهم ضيّعوا مقاصد القرآن فلم يحصل منهم تدبّر”.
وقد جاء على لسان العلماء تعريفُ “المقاصد” قائلين: هي جلب المصالح ودفع المفاسد. وهذا يعني أنّ الشريعة الإسلامية جاءت باليُسر ورفع الحرج عن الناس، وهذا وارد في غير ما آية، كقوله تعالى : {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} وقوله عز من قائل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، لكن قد يتساءل الإنسان وهو يحاول الربط بين هاتين الآيتين – اللتين تعتبران من المقاصد العامة والكلية للشريعة الإسلامية -، وبين تشريع عبادة الصيام – الذي هو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الشمس إلى غروبها بنيّة التعبُّد، وهذا في ظاهره مشقة -، فكيف يكون الجمع؟

تقوية المَلَكيَّة، وإضعاف البَهِيمِية.

يرى الشاه ولي الله الدهلوي في كتابه “حجة الله البالغة” أن من أسرار الصوم، تقوية المَلَكِيَّة، ويقصد بهذا التّشبُّه بالملائكة، بقهر النّفس في إزالة ما التصق بها من عاداة قبيحة و أفعال مُشينة، فيمسك لسانه وقلبه وحواسه وجوارحه عن الوقوع في الحرام، فيتعالج بذلك من أمراضه القلبية وما إلى ذلك، وربما يصدر منه ذنب، فيصوم أيّاما تأديبا لنفسه، وكذا الحال مع أفعاله الطبيعية التي أحدثت مفارقة بينه وبين الملائكة، كترك الأكل والشرب والجماع.
بينما يُكفِّر الصوم الذنوب بقدر ما نقص من تلك الصورة البهائمية، بحيث تصبح الإرادة الطبيعية للإنسان منقادة للعقل يسيطر عليها ويُوجّهها، وليس العكس. [ص: 140 بتصرّف].
وكذلك يقول الإمام المقاصدي الطاهر ابن عاشور أنّ الصيام يرتقي بالمسلم عن حضيض الانغماس في المادة إلى أوج العالم الروحاني، فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملَكِية، والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية. [التحرير والتنوير، (2/158)].
فإطاعة الله سبحانه وتعالى بفعل المأمور واجتناب المحظور، يرقى بالإنسان من الآدمية إلى الملائكية، في حين أن معصيته سبحانه تنزل بالإنسان إلى دركات البهائمية، ولذلك جاء التشبيه بالأنعام في غير ما موضع في القرآن الكريم، ومنها قوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}.

الصوم جُنّةٌ.

أخرج البخاري رحمه الله حديث أبي هريرة عن الرسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: ((الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلاَ يَرْفثْ وَلاَ يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائمٌ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا)).
الصيام جُنة، أي يقي الإنسان، ولم يعيِّن لنا النبي صلى الله عليه وسلم من ماذا يقي الصيام، فتُحمل هذه الوقاية على كل ما يقي منه الصيام بدون تخصيص، وهذا من مقاصد الصيام التي جاءت السُّنة الشريفة تبيِّنه لنا، وإن كان هذا المقصود متضمنا في قوله تعالى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، يقول الطاهر ابن عاشور رحمه الله : “ففي الصوم وقاية من الوقوع في المآثم ووقاية من الوقوع في عذاب الآخرة، ووقاية من العلل والأدواء الناشئة عن الإفراط في تناول اللذات”. [المصدر السابق]

لعلّكم تتقون.

يقول الله عز وجل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وهذا هو المقصد الأعظم من تشريع الصيام، وهو مقصد تحصيل التقوى، قال الطاهر ابن عاشور في تفسيرها : “والتقوى الشرعية هي اتقاء المعاصي، وإنما كان الصيام موجِبا لاتقاء المعاصي، لأن المعاصي قسمان، قسم ينجع في تركه التفكُّر، كالخمر و الميسر والسّرقة والغصب، فتركه يحصل بالوعد على تركه، والوعيد على فعله، والموعظة بأحوال الغير.
وقسم ينشأ من دواع طبيعية ، كالأمور الناشئة عن الغضب وعن الشهوة الطبيعية التي قد يصعب تركها بمجرّد التفكّر، فجعل الصيام وسيلة لاتقائها، لأنّه يعدل القوى الطبيعية التي هي داعية تلك المعاصي، ليرتقي المسلم به عن حضيض الانغماس في المادة إلى أوج العالم الروحاني”.

(المصدر: مركز يقين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى