لماذا ليست كل الأحاديث متواترة؟
بقلم د. مسعود صبري
يثار اللغط في مسألة أحاديث الآحاد كل فترة، فهناك من يطعن فيها جملة وتفصيلاً، أياً كان موضوعها، في الأحكام الفقهية، أو العقيدة، أو الآداب والأخلاق أو غيرها، وهناك –حتى من العلماء- من يرى عدم قبول العمل بأحاديث الآحاد في مسائل الاعتقاد، ويقبلها في الأحكام الفقهية، لأنه يفرق بين الكليات التي هي العقيدة، والفروع التي هي الفقه.
على أن الإشكال الأكبر هو انشغال غير المتخصصين في علوم الشريعة به، والحديث عنه بين الحين والآخر.
والإشكال الأكبر في قضية أحاديث الآحاد في عدة أمور، من أهمها:
– مفهوم أحاديث الآحاد والفرق بينه وبين المتواتر.
– كيف تكونت أحاديث الآحاد، ولماذا لم تكن كل أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم متواترة؟
– لم الهجوم على أحاديث الآحاد أكثر من غيرها؟
أولاً: مفهوم أحاديث الآحاد:
قد يظن البعض أن أحاديث الآحاد أو ما يعبر عنه بـ”خبر الواحد”، يقتصر على الأحاديث التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم صحابي واحد.
وأحاديث الآحاد هي الأحاديث التي لم تبلغ حد التواتر، سواء رواها واحد أو أكثر، يعني جماعة لم تبلغ حد التواتر، وهذا يعني ابتداء ألا تكون كل الأحاديث المعروفة بالآحاد قد رواها راوٍ واحد فقط، فقد يكون رواها جمع، لكنهم لم يكونوا بالكثرة بحيث تبلغ الحد الذي يحصل العلم بالقطع فيه أنها لا تحتمل الكذب ولو نسبة ضئيلة.
الأمر الآخر أن الحكم على أحادية الحديث لا يقف عند طبقة واحدة من الرواة، بل على عدة طبقات.
الحديث الغريب:
وعلماء الحديث يقسمون أحاديث الآحاد إلى أقسام، منه الحديث الغريب الذي يرويه واحد على طول السند، ولا علاقة بين غرابة الحديث وصحته أو ضعفه، فقد يكون غريباً صحيحاً، مثل حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى”، وهو من أشهر الأحاديث في الإسلام.
ومن أمثلته أيضاً الحديث القدسي: “يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً”.
الحديث العزيز:
ومنه: الحديث العزيز الذي يرويه اثنان في كل طبقة، ومثاله قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين”.
الحديث المشهور:
ومنه الحديث المشهور، وهو الذي يرويه أكثر من اثنين، لكن يكون أقل من التواتر، فهو ما بين العزيز والمتواتر، ومن أمثلته حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً، ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء”.
ثانياً: لماذا لم تكن كل أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم متواترة؟
يتصور البعض أن الصحابة –رضوان الله عليهم- كانوا جميعاً مع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل أوقاته، وأنهم كانوا يلازمون النبي صلى الله عليه وسلم أينما حل وارتحل، في المسجد، وفي السوق، وفي كل شأنه.
وهذا غير صحيح، فلم يكن كل الصحابة يلازمون النبي صلى الله عليه وسلم في كل شأنه، والدليل على ذلك:
أن الصحابة –رضوان الله عليهم- لم يكونوا يعيشون مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، ولم يكونوا يأكلون معه دائماً، ولا يبيتون عنده الليل، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسمر بعد العشاء، ولا يخرج إلى الصحابة إلا عند صلاة الفجر، وكان يصلي سنة الفجر في بيته، ولا يخرج إلا لصلاة الفريضة، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيل بعد الظهر، فينام، فلا يكون معه أحد من الصحابة.
إن كثيراً من الصحابة كان ينشغل عن مواطن رسول الله صلى الله عليه وسلم العادية، بل كان منهم الزراع والتجار، فينشغلون بالزراعة والتجارة والحرف الأخرى.
وقد عبر عن ذلك أبو هريرة رضي الله عنه حين شكا أنه يكثر من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يعني أن كثرة الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن معروفة إلا في عدد قليل، منهم أبو هريرة، وأرجع سبب كثرة روايته أنه لم يكن مشغولاً كما كان المهاجرون والأنصار، بل كان ملازماً للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال فيما ورد في البخاري: “إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون”.
ويؤيد هذا أيضاً ما ورد في الصحيحين من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهم من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم، فينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك”.
وهذا من فعل عمر رضي الله عنه -وهو المجتهد في الإسلام، الحريص على معرفة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم- إلا أنه –مع حرصه واجتهاده- لم يكن يحضر المجالس العامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ناهيك عن المجالس الخاصة.
ثم إن الصحابة –رضوان الله عليهم- كان منهم من يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله في بعض الأمور الخاصة، أو يأتي إليه وحده، فيجلس معه، فيحدث بما دار بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا تصورنا عشرات الصحابة –رضوان الله عليهم- الذين كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وينقلبون إلى قبائلهم وعشائرهم، فلم يكن كل الصحابة يعلم عن كل الصحابة ما دار بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يعني أن كثيراً من الصحابة لم يكن يعلم كل أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت معلومة في جملة الصحابة.
ثم إننا إذا اصطحبنا معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، وهذا يعني أننا نريد أن نعد كلام النبي صلى الله عليه وسلم على مدار اليوم في مدة ثلاثة وعشرين عاماً، وهذا يصعب جمعه من جموع الصحابة، بل بعضه مجموع من الكثرة، وبعضه مجموع من القلة.
وكليات الشريعة محفوظة بالجملة في القرآن الكريم، وتطبيقاتها وشرحها في السنة النبوية.
على أن الخلاف بين العلماء في أحاديث الآحاد لم يحرر جيداً، كما أشار إلى ذلك فضيلة الشيخ القرضاوي وغيره من العلماء.
ثالثاً: لماذا الطعن في أحاديث الآحاد؟
هناك فرق بين مناقشة العلماء المبنية على الدليل والحجة والبرهان، وبين محاولات التشكيك، والطعن في أحاديث الآحاد، وهو أحد أوجه الطعن في السنة النبوية، والطعن في السنة له أشكال عديدة جداً، سواء الطعن في الرواة كالطعن في أبي هريرة ـرضي الله عنه- وغيره، أو الطعن من جهة كتابة الحديث لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا غير صحيح، أو الطعن في درجات السند وإن كان صحيحاً، كما هو في أحاديث الآحاد، فالمقصود هو الطعن في السُّنة النبوية، ولكن الطعن في أحاديث الآحاد التي هي القسيم الأكبر في السنة، يعني الطعن في غالب السُّنة، بل لم تسلم الأحاديث المتواترة أيضاً من الطعن.
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)