لماذا لم يوجب الفقهاء -قديماً- نفقة الزوج على زوجته حال مرضها؟!
بقلم رانية نصر “عضو هيئة علماء فلسطين” (خاص بالمنتدى)
كثر اللغط حول مسألة عدم إيجاب الفقهاء -سابقاً- نفقة الزوج على زوجته حال مرضها، ولمناقشة الموضوع مناقشة هادئة والوصول إلى فهم صائب عن الأسباب التي دعت الفقهاء إلى تقرير هذا الحكم؛ نحتاج إلى تصّور المسألة بعقلية الفقهاء في ذاك الزمن وفي الظروف التي عاشوها، وهذا يحتاج إلى كثير من التّجرّد والموضوعية وعدم الخضوع للمُثيرات الفكرية التي يتبناها الفكر النسوي اليوم سواء الغربي أو المُتأسلم، أو العلماني والذي يتهم الفقهاء -بهتاناً وزوراً- بالتّحيز ضد المرأة؛ حيث يطلقون على اجتهاداتهم ما يُسمى “بالفقه الذكوري”، رغبة في تجديد الفقة الإسلامي -على حد تعبيرهم-؛ والذي يهدف لنقض عرى الإسلام عروة عروة.
ولتأسيس فهم سليم عن رؤية الشارع والفقهاء للمرأة وحقوقها المشروعة؛ نستعرض أولاً بعضاً من النصوص التي أكّدت على ضرورة إكرام المرأة والإحسان إليها ووجوب النفقة عليها من القرآن الكريم والسنة النبوية والاجتهادات الفقهية، ومن ثم نُشخّص الفتوى بالتفصيل ونبحث في إمكانية تنزيلها على الواقع.
أولاً: النصوص من القرآن الكريم.
قال الله -تعالى- في وجوب توفير مسكن كريم للمرأة: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾(الطلاق:6)، فالشارع حرص على صيانة المرأة، وذلك بتأمين مسكن كريم لها يحفظها بعيداً عن أنظار الناس، ويحمي خصوصيّتها كأنثى، وأمر بمنع مضارّاتها والتضييق عليها؛ سواء حُمِل اللفظ على المعنى الحقيقي والذي يكون بقلة الإنفاق والشح، أو على المعنى المجازي والذي يكون بإيقاع الأذى النفسي والوجداني عليها.
وقال -تعالى- في وجوب إيفاء المرأة حقوقها المالية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ۖوَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾(النساء: 19)، فمن يظلم النساء بمنعهن حقوقهن المالية يقع في الإثم والمعصية، ويبتعد عن المنهج الإسلامي القويم الذي يحث على الإحسان للآخرين خاصة المرأة والأطفال والشيوخ والخدم لقلة حيلتهم وضعف قواهم، وقال -تعالى- في وجوب حسن معاشرة الزوجة: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾(النساء:19)، أي بإحسان وبالمعهود والمُتعارف عليه بين الناس، ومن تعذّر عليه العشرة بالمعروف فعليه التّسريح بإحسان كما أمر ربنا -عزوجل- بقوله: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ﴾ (البقرة: 229)، وغيرها الكثير من الحقوق المنصوص عليها مثل حق الحضانة والنفقة والمهر وحقها في التوريث..الخ.
ثانياً: من السُّنة النبوية.
أما على مستوى السنة النبوية؛ فكثيرة هي النصوص الحديثية الحاثة على إكرام المرأة، ومنها ما قاله أبو هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ﴿مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ، فلا يُؤْذِي جارَهُ، واسْتَوْصُوا بالنِّساءِ خَيْرًا، فإنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِن ضِلَعٍ، وإنَّ أعْوَجَ شيءٍ في الضِّلَعِ أعْلاهُ، فإنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وإنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أعْوَجَ، فاسْتَوْصُوا بالنِّساءِ خَيْرًا﴾ رواه الشيخان.
ورُوِي عن المقدام بن معدي كرب الكندي -رضي الله عنه-، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- أنّه قال:﴿إنَّ اللهَ يُوصِيكُم بالنساءِ خيرًا، إنَّ اللهَ يُوصِيكُم بالنساءِ خيرًا﴾ السلسلة الصحيحة.
وعن سليمان بن عمرو بن الأحوص قال حدثني أبي أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- فحمد الله، وأثنى عليه، وذكر، ووعظ، فذكر في الحديث قصة فقال: ﴿ألا واستَوْصُوا بالنِّساءِ خَيرًا؛ فإنَّما هُنَّ عَوَانٍ عندَكُم﴾سنن الترمذي، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسير له، فحدا الحادي، فقال عليه الصلاة والسلام: ﴿ارفق يا أنجشة، ويحك بالقوارير﴾ رواه البخاري، وحديث ﴿من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جدَتِه؛ كُنّ له حجاباً من النار يوم القيامة﴾ أخرجه ابن ماجه، فكل هذه الأحاديث وغيرها فيها دلالة واضحة على وجوب إكرام المرأة والإحسان إليها والتعامل مع طبيعتها كأنثى باحترام وتقدير ورعاية خاصة وراقية جداً، حتى أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن قتل النساء والصبيان.
ثالثاً: اجتهادات الفُقهاء.
إن الاجتهادات الفقهية التي أنصفت المرأة تكاد لا تحصى ولا تُعدّ، ويُذكر -على سبيل المثال لا الحصر- إيجاب الفقهاء توفير خادم للمرأة إذا كانت ممن يُخدم، وقول الحنفية في المشهور عندهم والحنابلة بوجوب إلزام الزوج بإحضار مؤنسة للزوجة إذا دعت الحاجة، كخوف مكانها أو خوفها على نفسها من عدو يتربص بها، وقد تقرر في المذهب الحنبلي وجوب توفير القهوة لها إن اعتادت عليها وطلبتها، نقل عثمان بن قائد عن منصور البهوتي في “هداية الراغب”: “ينبغي وجوبها لمن اعتادتها لعدم غناها عنها عادةً، وعملاً بالعُرف”، وغيرها الكثير من الاجتهادات الفقهية.
فلا يُعقل بعد كل هذا الإنصاف للمرأة أن نتصور ظلم الفقهاء لها دون مُوجب أو مُبرر، وقد جاءت النصوص موصية بها وبالتزام إيفائها حقوقها.. إذن ما سبب فتوى الفقهاء بعدم وجوب نفقة الزوج على زوجته حال مرضها؟؟ خاصة أنها حال المرض تكون أشد حاجة وطلباً للنفقة والرعاية النفسية والجسدية، والشارع الذي أوجب السكن وهو مظنة حفظ العورة؛ أولى به أن يوجب حفظ النفس والتي بفوات التداوي تكون مظنة التهلكة والموت؟؟
إن المنهجية المنضبطة في فك هذا اللغز هي وجوب النظر في السياق الزماني والمفاهيمي للعصر الذي أُقّرَت فيه الفتوى، ثم البحث في إمكانية تنزيل هذا الاجتهاد أو هذه الفتوى على مفاهيم العصر الحالي، هل تقبل التنزيل أم تمتنع؟؟!! وهذا لا يتم تقديره واعتباره بمنأىً عن أعراف الناس وعوائدهم؛ حيث أنّ العُرف من المصادر التشريعية التّبعيّة المساعدة في الوصول إلى الحكم الدقيق.
إذن بالنظر للعصر الذي أقرت فيه هذه الفتوى؛ نستطيع القول بأن الأسباب التي دعت الفقهاء لهذا الرأي هي كالآتي:
أولاً: أسباب راجعة للعقيدة
كان الفهم السائد بين الفقهاء كراهة التداوي لأنه في اعتقادهم -وقتئذ- ينافي حقيقة التّوكل على الله، قال البهوتي: “ترك الدواء أفضل.. لأنه أقرب إلى التّوكل”، ذلك اعتصاماً بالله تعالى، وتوكلاً عليه، وثقة به، وانقطاعاً إليه، وعلماً بأن الرُّقية لا تنفعه، وأن تركها لا يضرّه إذ قد علم الله أيام المرض وأيام الصحة وزمن الدعاء.
وقد ترك التداوي جمعٌ من الأكابر ، وكانوا يظنون أنّ التداوي ينافي حقيقة التّوكل، فقد قيل لأبي الدرداء في مرضه ما تشتكي، قال ذنوبي، قيل: فما تشتهي؟ قال: مغفرة ربي، قالوا: ألا ندعو لك طبيباً؟ قال: الطبيب أمرضني، وقيل لأبي ذرّ وقد رمدت عيناه لو داويتهما، قال: إني عنهما مشغول، فقيل: لو سألت الله تعالى أي يعافيك! فقال: أسأله فيما هو أهم علي منهما؟!
وكذا الربيع بن خثيم أصابه فالج، فقيل له لو تداويت! فقال قد هممت ثم ذكرت عاداً وثمود وأصحاب الرّس وقروناً بين ذلك كثيراً، وكان فيهم الأطباء فهلك المُداوِي والمدَاوَى ولم تغن الرقي شيئاً، وجاء في مجموع الفتاوى لابن تيمية أن ترك التداوي أفضل وهو المنصوص عليه في مذهب الحنابلة، كان الإمام أحمد بن حنبل يقول أُحِبُّ لمن اعتقَد التوكل وسلك هذا الطريق ترك التداوي من شرب الدواء وغيره، وإن كان به علل فلا يُخبر المتطبب بها أيضاً إذا سأله، وفي رواية المروزي: العلاج رُخصة وتركه درجة أعلى منه، وبهذا قال النووي في المجموع.
وجاء في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في حديث يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب، قال: ﴿…هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون﴾
وقد كان السلف لذلك يستوحشون إذا خرج عام ولم يصابوا فيه بنقص في نفس أو مال وقالوا لا يخلو المؤمن في كل أربعين يوما أن يروع روعة أو يصاب ببلية، حتى روي أن عمار بن ياسر تزوج امرأة فلم تكن تمرض فطلقها، وجاء في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عرض عليه امرأة فحكي من وصفها حتى همّ أن يتزوجها فقيل وإنها ما مرضت قط فقال لا حاجة لي فيها، “بإسناد جيد”.
وكذا؛ ما ساعد على تنامي هذا الاعتقاد قصة المرأة التي كانت تُصرع والثابتة في الصحيحين، فعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي -صلى الله عليه وسلم-، قالت: إني أُصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي، قال: إن شئت صبرتِ، ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك. قالت: أصبر. قالت: فإني أتكشف، فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها.
فكل هذه النصوص صنعت حالة من الاعتقاد بكراهية التداوي، وأن عدم التداوي هو الأصل، وأن التداوي يتنافى وحسن التوكل على الله، فكانت سبباً وجيهاً في إصدار فتوى بعدم وجوب الإنفاق على الزوجة حال مرضها، فضلاً عن أنهم جعلوا التداوي بشكل عام على الإباحة والاستحباب لا على الوجوب، وحكم النفقة الوجوب، فامتنع دخوله في الواجب.
ثانياً: أسباب راجعة للعُرف.
في تلك العصور لم يكن وجوداً للأطباء أصلاً، ولم يكن الطب متطوراً، ولا يُشبه الطب في العصر الحالي، من دقة في تشخيص المرض، وتوصيف أدوية وعلاجات مُجربة وناجحة؛ إنما كان بسيطاً جداً، وأقصى ما كانوا يتداوون به هو الحجامة والكي والحبة السوداء والعسل والرّقية؛ لذلك كان يدخل في باب التحسينيات لا الحاجات والضروريات، فلم يجد الفقهاء داعياً لإيجاب التطبب مع ندرة احتمال أو تصور الشفاء لفقد الأدوية أصلاً والأطباء المتخصصين في الأمراض على اختلافها وتنوعها وكثرتها كما هو معهود اليوم، فكانت النتيجة طبيعية جداً بفتوى لا تجيب نفقة الزوج على الزوجة حال مرضها لثانويتها.
ثالثاً: أراء الفقهاء في العصر الحالي.
لم أجد على -ما مررت عليه من دراسات وكتب- فتاوى تُقّر العمل بتلك الفتوى اليوم، لتبدل الحال واعتبار المآل، فالطب أصبح متطوراً بشكل كبير جداً، والأعراف تغيرت، والاعتقاد الذي كان سائداً انضبط أكثر بالرجوع إلى كلامه -صلى الله عليه وسلم- : ﴿تداووا﴾ وأن الأخذ بالأسباب بالتداوي لا يتنافى مع حقيقة التوكل على الله، بل إن التداوي قد يدخل في باب الواجب؛ ذلك أن الله -تعالى- قال: ﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ البقرة: 195.
نصل بعد هذا التفصيل إلى حقيقة مفادها أنّ بعض الاجتهادات التي كانت تصلُح لعصر بعينه وراجعه للعُرف قد تمتنع في بعض الأحيان عن التنزيل على عصر آخر؛ لتبدل الأعراف والأحوال والأزمنة والأمكنة، بل لا يصح اجترارها من كتب الفقه وتصديرها على أنها فتاوى معمولٌ بها الآن؛ حيث تنافي الإنسانية والرحمة والتعامل بأخلاق مع المرأة رغبة في تسويق الفكر النسوي الساعي لتدمير القيم والمبادئ والأخلاق، والذي يدّعي مظلومية المرأة ويتّهم الفقه واجتهادات العلماء سابقاً بالفقه الذكوري ويريد تشويه الدّين الإسلامي، وليس الفكر العلماني بأفضل حالٍ منه!