لماذا كان حفظ الدين أهم ضروريات الإسلام؟
مقالات شرعية – محمد لافي
خلق الله تعالى عباده وشرع لهم من الأحكام ما يصلح شأنهم في معاشهم وينجيهم في معادهم، ولعل من أعظم الأصول والمقاصد التي اتفقت عليها جميع الأديان والشرائع السماوية – وعلى رأسها الإسلام الذي هو خاتم الأديان والوحيد الذي ما زال محفوظاً بحفظ الله من التبديل والتحريف – والتي من خلالها تنتظم حياة المجتمع الإنساني دينياً ودنيوياً، وبدونها أو باختلالها ينعدم النظام في المجتمع، ويختل ميزان استقرار الحياة فيها: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، والتي اتفق علماء الإسلام على تسميتها بالضروريات الخمس، التي هي أهم مقاصد التشريع الإسلامي.
قال الشاطبي: “تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون ضرورية. والثاني: أن تكون حاجية. والثالث: أن تكون تحسينية.
فأما الضرورية: فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين… ومجموع الضروريات خمس وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل”( (1).
ومع أهمية جميع الضروريات الخمس، إلا أنها ليست على درجة واحدة، فبعضها مقدم على بعض عند التعارض، وقد جعل الإسلام الدين من أهم وأعظم الضروريات، لاعتبارات ذكرها بعض العلماء، وأسباب ما زال بعضها يظهر حتى عصرنا الحاضر، وهو ما يجيب عن تساؤل المقال: لماذا كان حفظ الدين أهم ضروريات الإسلام؟!.
إن للدين أهمية عظيمة في حياة الإنسان عموماً، فهو يلبي النزعة الإنسانية والحاجة الفطرية التي تدفع الإنسان دفعاً لعبادة الإله الواحد سبحانه، تلك الحاجة التي يفتقدها كثير من غير المسلمين في العالم اليوم، والتي هي السبب الرئيس في الفراغ الروحي الذي يعترف به القاصي والداني منهم، والذي هو سبب الكثير من الكوارث الإنسانية المعاصرة، لعل أخطرها كارثة فقدان الإنسان لحقيقة وجوهر وجوده على هذه الأرض – عباده الله: {وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} الذاريات/56.
كما أن حفظ الدين يمد الإنسان بالوجدان والضمير، ويقوي في نفسه نوازع الخير وعناصر الفضيلة، ويضفي على حياته السعادة والطمأنينة، تلك المصطلحات التي لم يعد لها في قاموس الحياة المعاصرة كثير وجود أو حقيقة معنى، في ظل طغيان المادية النفعية الغربية المقيتة، التي أفقدت بعض البشر إنسانيتهم، وانتزعت منهم أسباب السعادة وعوامل الطمأنينة الموجودة في الدين الحق.
من أجل الأسباب كلها كان الدين ضرورة ملحة في حياة الإنسان، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} الروم/30.
والحقيقة أن ضرورة الدين في حياة الإنسان يعترف بها جميع عقلاء بني البشر حتى لو لم يكونوا مسلمين، فها هو الفيلسوف الفرنسي هنري برجستون يقول: “لقد وجدت – وتوجد – جماعات إنسانية من غير علوم وفنون وفلسفات ولكن لم توجد قط جماعة بغير ديانة” (2).
كما أن تقديم الدين على بقية الضروريات له أسبابه ومبرراته في الإسلام، فبالإضافة لكل ما سبق، يمكن ذكر قول ابن أمير الحاج: “ويقدم حفظ الدين من الضروريات على ما عداه عند المعارضة لأنه المقصود الأعظم، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} الذاريات/56، وغيره مقصود من أجله، ولأن ثمرته أكمل الثمرات وهي نيل السعادة الأبدية في جوار ربّ العالمين، ثم يقدم حفظ النفس على حفظ النسب والعقل والمال لتضمنه المصالح الدينية، لأنها إنما تحصل بالعبادات، وحصولها موقوف على بقاء النفس، ثم يقدم حفظ النسب لأنه لبقاء نفس الولد، إذ بتحريم الزنا لا يحصل اختلاط النسب، فينسب إلى شخص واحد فيهتم بتربيته وحفظ نفسه، وإلا أهمل فتفوت نفسه لعدم قدرته على حفظها، ثم يقدم حفظ العقل على حفظ المال لفوات النفس بفواته، حتى إن الإنسان بفواته يلتحق بالحيوانات ويسقط عنه التكليف، ومن ثمة وجب بتفويته ما وجب بتفويت النفس وهي الدية الكاملة، ثم حفظ المال” (3).
وإذا كان كلام ابن أمير الحاج وما سبقه يفي بجزء كبير من تساؤل المقال، فإن الجزء الآخر من الجواب يكمن فيما شهده هذا الدين منذ عصر النبوة – وما زال يشهده حتى عصرنا الحاضر – من هجمة شرسة على وجوده فضلا عن ثوابته وأركانه وأحكامه.
لقد تجلت أولوية حفظ الدين على غيرها من الضروريات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً، فحين ساومه أهل مكة على الرسالة الإسلامية والدين الحنيف الخاتم، كان رده أبلغ جواب لمن أراد معرفة منزلة الدين وضرورته في حياة المسلم والإنسان: (يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته) (4).
كما تجلت هذه الأولوية والضرورة في حياة وسلوك أصحابه من بعده صلى الله عليه وسلم، فقدموا في سبيل الله ونشر دين الإسلام الغالي والنفيس من الأنفس والأموال والأولاد، وتحملوا في سبيل عقديتهم كل ألوان العذاب: {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} آل عمران/ 146، ولعل في قتال أبي بكر الصديق رضي الله عنه المرتدين عن دين الله الإسلام بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، خير شاهد على أهمية وضرورة الدين في حياة السلف الصالح.
وفي سبيل الحفاظ على هذه الضروريات الخمس عموماً، حرص الإسلام على تحقيقها وإيجادها في المقام الأول، والمحافظة على استمرارها وحمايتها من المعتدين وعبث العابثين في المقام الثاني.
أما المقام الأوَّل – فيما يخص ضرورة حفظ الدين من جانب الوجود – فقد عملت الشريعة الإسلام على غرس ترسيخ اليقين بأصول الإيمان وأركانه – الإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر والقدر خيره وشره – كما اهتمت بإقامة هذا الإيمان على البرهان العقلي والحجة العلمية أيضا، ومن هنا كانت دعوة الإسلام إلى النظر والتفكر والتدبر: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} الأعراف/185، كما كان نعيه على أولئك الذين لا يتفكرون في آيات الله المبثوثة في الكون: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} يوسف/105.
وبالإضافة لما سبق حرصت الشريعة الإسلامية على القيام بأصول العبادات وأركان الإسلام، فمن أهم أسرار العبادات وحكمها أنها تصل العبد بربه وتوثق صلته به، مما يرسخ أصل الإيمان في نفسه ويجدده، كما أوجبت الدعوة إلى الله وحمايتها وتوفير أسباب الأمن لحملتها.
وأما فيما يتعلق بالمقام الثاني – حفظ الدين من جانب البقاء – فقد اتبعت الشريعة من الوسائل ما يحفظ هذا الدين ويصونه، ويزيل كل العوائق من طريقه، فمع كفالة الإسلام لحرية العقيدة والتدين وحمايتها، نظراً لكون الإسلام لا يكره أحداً على اعتناقه ابتداء لقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} البقرة/256.
إلا أن ذلك لا يعني ترك الحبل على غاربه للعابثين أو المتربصين بهذا الدين، أو بدعاته والمبشرين به في العالمين، فقد شرع الله الجهاد تمكينا للدين وو حماية للاعتقاد، ودرءً للعدوان عليه وعلى أتباعه قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِين} البقرة/193، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِير} الأنفال/39.
كما أن الشريعة الإسلامية قد أوجبت الالتزام بتعاليم الدين وتطبيقها بعد القناعة بها، ولم تقبل مجرد النطق باللسان والتصديق بالقلب دليلاً على الإيمان، بل لا بد من قرن الإيمان بالعمل الصالح ليكتمل ويقبل، وهو ما صرحت به كثير من نصوص القرآن، وجاء واضحاً في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وفوق كل ما سبق جاء تشريع عقوبة الردة لكل من تسول له نفسه أن يتخذ الدين ألعوبة أو حيلة للنيل منه أو الطعن فيه، فمن ارتد بعض أن دخل هذا الدين بقناعة تامة، فقد أثبت على نفسه أنه إنما أراد بدخوله الإسلام إحداث بلبلة واضطراب داخل المجتمع المسلم، ومن هنا يمكن فهم محاولة أهل الكتاب الولوج من هذا الباب للنيل من دين الله الإسلام: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} آل عمران/72.
ومن هنا أيضاً يمكن فهم كشف الله تعالى لمكيدة أهل الكتاب ومكرهم، وتشريع حد القتل على المرتد صيانة لدينه من عبث العابثين، قال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة/217، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ} صحيح البخاري برقم/3017، وقال أيضا: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) (5).
ومن هنا يمكن فهم الحملة الممنهجة من قبل أعداء الإسلام وبعض الجاهلين من المسلمين على هذا الحد الشرعي منذ فترة طويلة وحتى الآن، تشكيكا بثبوته، وتشويها لحقيقته، ومحاولة لإلغائه أو إخفائه من الشريعة الإسلامية، أو عدم تطبيقه وتنفيذه على أقل تقدير.
إن ما يشهده العصر الحديث من هجمة شرسة على الدين الإسلامي الحنيف، تمثلت بمحاولة التشكيك بأصوله وثوابته، والطعن بأحكامه وتشريعاته، ناهيك عن النيل من أتباعه ومحاولة استئصالهم، سواء من الصهيونية اليهودية الماكرة، أو الصليبية العالمية الحاقدة، أو الصفوية الرافضية الحانقة، أو الشيوعية الماركسية التي تعتبر الدين أفيون الشعوب كما تزعم….. يكفي تبريرا وجوابا – ما مع سبق – على تساؤل المقال: لماذا كان حفظ الدين من أهم ضروريات الإسلام؟!.
___________________
(1) الموافقات للشاطبي 2/14 .
(2) كتاب: أصلَا الأخلاق والدين “فرنسي” ص7.
(3) التقرير والتحبير3/231.
(4) الروض الأنف للسهيلي 3/11 .
(5) صحيح الجامع للألباني برقم 7643.