مقالاتمقالات مختارة

لماذا صار “المهندس” أسطورة؟!

لماذا صار “المهندس” أسطورة؟!

بقلم أ. محمد إلهامي

قال حكيم التاريخ ابن خلدون: “واعلم أنّ الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله واستقامة في فكره لأنّ براهينها كلّها بيّنة الانتظام جليّة التّرتيب لا يكاد الغلط يدخل أقيستها لترتيبها وانتظامها فيبعد الفكر بممارستها عن الخطأ وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهيع وقد زعموا أنّه كان مكتوبا على باب أفلاطون: «من لم يكن مهندسا فلا يدخلنّ منزلنا» وكان شيوخنا رحمهم الله يقولون: «ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصّابون للثّوب الّذي يغسل منه الأقذار وينقّيه من الأوضار والأدران». وإنّما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه” [المقدمة 1/639، 640 ط دار الفكر].

وقبل أن تفكر في الاختلاف أو الاتفاق مع ابن خلدون، اعلم أننا لا نسوق كلامه في مدح المهندسين، وإنما نتخذه مدخلا للحديث عن “المهندس” الذي صار أسطورة!

إنه.. يحيى عياش!

تمر بنا هذه الأيام ذكرى استشهاد عياش (6/1/1996م)، المعروف بلقبه وحده “المهندس”، فإذا قيل هذا اللقب في سياق الجهاد والمقاومة انصرفت الأذهان إلى شخصه، دون غيره من أجيال المهندسين الذين تلقي بهم الجامعات أفواجا في كل سنة!

فلماذا صار “المهندس” أسطورة؟!

يذكرني يحيى عياش بالصحابي الجليل سعد بن معاذ رضي الله عنه، فإن سعدًا كان سيد قومه ولم يزل في العشرينيات من عمره بعد حرب بعاث التي أهلكت صناديد الأوس والخزرج، ثم إنه صاحب الفتح الكبير حين أسلم فكان إسلامه سببا لدخول عشيرته في الدين، وهم الذين كانوا بعدئذ الأنصار.. الأنصار الذين نصر الله بهم هذا الدين، والذين أُمِرْنا بحبهم، والذين يتمنى صاحب كل دعوة وفكرة رجالا مثلهم، والذين حملوا الدين حتى استقرت دولته وارتفعت رايته، ثم لم يخرجوا من هذا الجهاد الطويل كله بشيء من متاع الدنيا!

لم يعش سعد في الإسلام طويلا، خمس سنوات فقط أو تزيد، ثم استشهد في غزوة الأحزاب وهو في السادسة والثلاثين، خمس سنوات فقط ولما مات اهتز لموته عرش الرحمن! فأي همة وأي عظمة وأي مكانة هذه! وكم عاش في الإسلام أناس أعمارا مديدة فلا انتفع الإسلام منهم بشيء، ولا اهتز لموتهم جفن في عين!

من هذا الوجه يشبهه يحيى عياش!

لم يكن عمر عياش في الجهاد سوى أربع سنوات (1992 – 1996م) ولما استشهد اهتزت لموته الأمة كلها، بل واهتز –فرحا- أعداء الأمة الذين تخلصوا من هذا الشاب الضئيل النحيل، الذي لم يكمل الثلاثين عاما بعد (ولد 1966 – استشهد 1996م)!

لما وُلِد كان ضئيلا صغيرا لا يحسب من يراه أنه سيعيش، ولما نما تعلق قلبه بالمساجد وصار ملازما لمسجد قريته، وكان حريصا على الصلاة في الصف الأول، تعلم القرآن، وعُرف بهدوء الطبع ولزوم الخجل، فما كان لأحد من غير ذوي الفراسة أن يبصر النفسية العظيمة في الإهاب الخجول، ولا النار المضطرمة في المطلع الهادئ، واندرج في سلك الدراسة وظهر تفوقه ونبوغه، ثم دخل كلية الهندسة، قسم الكهرباء، وتخرج فيها متفوقا، ثم منعه الاحتلال من الخروج إلى الأردن لاستكمال دراسته العليا، فبقي في الداخل ليذيقهم العذاب، حتى ارتقى شهيدا، فكان اختيار الله له خير من اختياره لنفسه، فلو أنه حصَّل مئات الشهادات العلمية ما كان ليبلغ هذه المكانة!

إلا أن يحيى لم يصر أسطورة بهذا، بل صار أسطورة لما هو آت..

كانت المقاومة الإسلامية لليهود تعاني من نقص في كل شيء، الرجال والمال والسلاح والتنظيم، حتى إن عماد عقل –وهو من رواد المقاومة وبواسلها الكبار قبل يحيى عياش- لما رأى بندقية M16 أخذ يُقَبِّلها ويبكي ويضمها إليه ويقلبها بين يديه كمن رأى كنزا ثمينا، لقد بدأ الأمر ببندقية واحدة تنتقل بين الضفة وغزة، وربما بعض المسدسات الخفيفة التي حُصِّلت من هنا وهناك والتي لا تزيد عن أصابع اليد كما يُفهم ممن أرخوا لتأسيس حماس[1]، ولذلك لم يكن لديهم خيار إلا المهاجمة المباشرة من وضع المواجهة اللصيقة (أو بتعبير العسكريين: من النقطة صفر)، وهذا أشبه بالعملية الاستشهادية مع ضعف النكاية في العدو.

حتى جاء يحيى عياش فصنع قفزة في مسار المقاومة، بتمكنه من تصنيع المتفجرات بأدوات محلية موجودة في البيئة الفلسطينية، كان عياش مخترعا مبتكرا، أقام على ترجمة أبحاث البارود حتى تمكن من الوصول إلى هدفه، وهنا صارت المقاومة تستطيع أن توقع النكاية في العدو مع الحفاظ على عناصرها وكوادرها، أو إن اضطرت فإن العلميات الاستشهادية سيذهب فيها الاستشهادي ولكن بعد أن يوقع في العدو خسائر فادحة.

هنا تغير الميزان بين المقاومة والعدو.. وهنا بدأت أسطورة المهندس في البزوغ!

وجهٌ آخر من أسطورته كامنٌ في قدرته على تضليل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، المدعومة بالأجهزة الأمنية العميلة للسلطة الفلسطينية، فبرغم الرقابة اللصيقة استطاع أن يبقى حرا في الضفة، ثم استطاع الهروب إلى غزة، بل واستطاع تهريب زوجته وابنه إلى غزة، ثم استطاع تهريب والدته فالتقى بها ثم عادت مرة أخرى إلى الضفة، وهذا أمرٌ لا يعرف صعوبته إلا من عاينه وعايشه.

بعد أربع سنوات استطاعت المخابرات الإسرائيلية –بعد مئات الاجتماعات والخطط وتجنيد العملاء- أن تتوصل إلى يحيى عياش من خلال عميل فلسطيني، فسرَّبت إليه هاتفا محمولا مشحونا بمتفجرات خفيفة في بطاريته، وكان الشهيد ينتظر مكالمة من والده فعمل هذا العميل على فصل الخط الأرضي ليضطر الشهيد لاستعمال الهاتف المحمول، وكانت تحوم فوق البيت الذي رُصِد فيه طائرة، فلما تمت المكالمة لم يأخذ الأمر خمس عشرة ثانية حتى تأكد الإسرائيليون من صوت الشهيد ففُجِّر الهاتف، ليتشوه نصف الوجه الأيمن والكف اليمنى للشهيد، ويُكتب ختام الأسطورة!

إن استشهاد عياش كان –للمفارقة- بابتكار هندسي أيضا، بطارية محمول تحتوي متفجرات خفيفة يتم تفجيرها بذبذبات الاتصال، وهو ما يكشف الفارق بين أن تكون مهندسا في ظل سلطة تسعى لنهضة الدولة وبين أن تكون مهندسا في ظل سلطة عميلة!! في الحالة الأولى تستطيع أن تكتب ختام أسطورة تمثل تهديدا خطيرا، وفي الثانية تظل مُطارَدًا مطلوبا حتى ينتهي بك الحال شهيدا أو أسيرا أو طريدا!

لولا العملاء، ولولا السلطة الفلسطينية العميلة التي كان يقودها الهالك المقبور ياسر عرفات، لحققت المقاومة الفلسطينية نجاحات هائلة غير مسبوقة، دليل ذلك أن أهل الضفة ما زالوا يعانون ولا يجدون غير السكاكين رغم أنهم أهل الاستشهاد والفداء، بينما غزة التي تحررت منهم تصنع الصواريخ والطائرات بغير طيار وتنفذ عمليات أمنية في غاية الخطورة ولا يستطيع الوحش الإسرائيلي الذي اغتصب أربعة بلاد عربية في أيام أن يجتاح قطاع غزة الضئيل المكشوف جغرافيا المراقب على مدار الساعة بعد أربعة حروب!! هذا مع أن القطاع مُحاصَر من العملاء في السلطة المصرية والسلطة الفلسطينية، ولولا هذا الحصار لكانت إنجازاته العسكرية والتقنية أكبر بكثير.

استشهاد عياش يفتح ملف هذه الأنظمة العربية العميلة المجرمة التي هي عين العدو وذراعه وسيفه ولسانه، بل هي أشد من العدو، لأنها من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وهو أمر ينبغي أن يرسخ في يقين الأمة ويقين الحركة الإسلامية، فالواقع الفعلي أن زوال هذه الأنظمة –ولو كان البديل هو الفوضى- أفضل من بقائها، والواقع أن الاحتلال المباشر الصريح لم يفعل فينا ما فعلته هذه الأنظمة، بل لم يستطع أن يستفيد ولا أن يترسخ وجوده إلا بهذه الأنظمة العميلة ذاتها.

هل تعلم مثلا أن حسن سلامة، قائد عمليات الثأر للشهيد يحيى عياش، هو الآن أسير في سجون الاحتلال الصهيوني؟ فهل تعلم أنه كان معتقلا لدى السلطة الفلسطينية أيضا؟ ثم هل تعلم أن هذا الأسير متهم لدى السلطة المصرية بأنه اقتحم الحدود في ثورة يناير وأخرج المساجين، وحاكمه القضاء المصري “الشامخ خدا” ثم حكم عليه بالإعدام؟!!

في بلادنا العربية لا تجد العلماء إلا في القبور أو السجون أو المنافي أو في أحسن أحوالهم يموتون بحسرتهم من العجز والفساد الذي يمنعهم أن يفعلوا شيئا، وأتذكر يوما (ربما في 2002 إن لم تخني الذاكرة) أن قرأت في بريد الأهرام رسالة من أستاذ للهندسة النووية يستعيد فيها ذكرياته حول دفعة قسم الهندسة النووية في جامعة الإسكندرية، ويتذكر كيف صار صديقه الآن أستاذا في أمريكا والآخر في كندا والآخر في استراليا، حتى إذا انتهى طرح السؤال المقصود: ما فائدة قسم الهندسة النووية إذا كان كل خريجيه سيكملون مسيرتهم في الخارج؟

والروايات في شأن من حاولوا اختراع أسلحة أو تطويرها، أو صناعة تطبيقات عسكرية لنظريات مدنية، تفيض بالمآسي المروعة التي لا تُصَدَّق.. لسنا أمة متخلفة ولكن أمة فرضت عليها هذه الأنظمة العميلة أن تكون متخلفة! بقرار واعٍ وعمد وإصرار لا بمجرد الفساد والغفلة والبلاهة، وهو أمر يعرفه من حاولوا حقّ المعرفة.

والآن، لا يعرف أحد حجم النكبة التي نزلت بمصر إلا إن كان يعرف بعض من ماتوا في رابعة أو بعض من هم الآن في السجون، ولقد كان منهم عباقرة ومخترعون ومن يفيضون طاقة ونشاطا في صناعة المستقبل.

كان سيد قطب، ببصيرته النافذة، قد أوصى أهل القدس في مطلع الخمسينات ألا يفكروا في الاعتماد على الجيوش العربية، بل ليعتمدوا على أنفسهم، وهي الكلمة التي رسخت في ذهن وقلب إبراهيم غوشة مؤسس حماس ووعاها منذ صغره، منذ سمعها من الشهيد.

ولو أنك سمعت حلقات شاهد على العصر للشيخ أحمد ياسين، لوجدته في الحلقة الأولى يصرح بأنه لولا الجيوش العربية لما كانت النكبة، ذلك أن الجيوش العربية كانت تدخل القرى الفلسطينية فتسحب السلاح من الناس، فإذا جاءت المواجهة انهزموا وانسحبوا أمام اليهود فتركوا الناس بلا سلاح!!

يمكن أن نفيض في التاريخ العسكري الأسود لهذه الأنظمة العربية التي لم تحقق ولا نصرا واحدا على عدوها، ولئن كان لها انتصار جزئي هنا أو هناك في معارك فرعية فإنه لم يكن إلا بدعم وجهود المقاومة الشعبية، ولولا ذلك لما فعلوا! بينما لم تكن تتردد هذه الجيوش في سحق المدن والبلاد وتنفيذ المجازر في شعوبها فحسب. وهو ما يعني بالواقع المجرد –لا بمجرد التوقع أو التحليل- أن زوال هذه الأنظمة خير من بقائها في كل الأحوال، وأن المجتمع في أشد لحظات الفوضى لم يأكل بعضه كما كان مأكولا على مذبح هذه الأنظمة!

هذا هو درس الأمة الكبير، الذي يجب ويتحتم على الحركة الإسلامية أن تعيه وتستفيد منه!

ثمة درس آخر.. وهو توظيف المواهب!

إذ يتحتم على الحركة الإسلامية أن تعمل على توظيف المواهب والقدرات، بل أن تسعى في اكتشافها وتنميتها ما استطاعت، ولو أن عياش استهلك في أعمال إدارية أو تنظيمية أو إعلامية أو دعوية أو أي شيء آخر بخلاف موهبته العملية لما صار يحيى عياش، ولما أضاف إلى الأمة ما أضافه.. فالسؤال المرير الآن: كم تقتل الحركة الإسلامية بسوء القيادة من أساطير كان يمكن أن تحقق قفزات كبرى في تاريخها؟ كم يحيى عياش استنزفت موهبته في عمل خيري أو دعوي أو إداري لقصر نظر المسئولين عنه؟!

لئن كان العدو اغتال المهندس الأسطورة.. فكم أسطورة هي بيننا في حكم الموءودة؟!!

ويبقى الدرس الأخير لكل صاحب موهبة، لا سيما إن كانت في الجانب العلمي، أن يسعى ليصنع أسطورته الخاصة، وكل موهوب داخله أسطورة تنتظر أن تخرج، لكنها تنتظر بذل الغالي والنفيس من المجهود والأوقات والأموال، ولئن كنا نلوم على من قصر نظره من القيادة فيجب أن نلوم في ذات الوقت من استسلم لقصر النظر وخضع للقرار الخطأ ولم يجاهد ليصنع أسطورته الخاصة فيضع نفسه حيث يرضى الله وحيث تنتفع الأمة على الزمن الطويل والمدى الواسع لا على مستوى التكلفة العاجلة التي يحتاجها التنظيم الآن في القرية أو الحي أو النقابة أو البرلمان.

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى