مقالات مختارة

لماذا تحدث الفتن؟ «2-2»

بقلم د. ياسر عبد التواب

ذكرت في المقالة السابقة بعض أسباب نزول الفتن وحلول البلاء.. وقلت أن من تلك الأسباب ألا يركن المرء إلى الدنيا وأن يرتبط القلب بالله تعالى فيطلب حاجته منه كما أن نزول البلاء هو رفعة للمرء بصبره واحتسابه ونزيد هذا الأمر وضوحا فنقول: قد تكون المصيبة نعمة: فهي كفارة للسيئات وهي تورثك انكسارًا بين يدي الله تعالى؛ وهذا تحقيق لمعنى من العبودية لا يستحضره الإنسان حال العافية..عن أم سلمة رضي الله عنها قالت قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: [ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله به: أي قوله تعالى {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة:155-156)، إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجُرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها] رواه مسلم وابن ماجه.

أخرج ابن أبي الدنيا عن شريح قال: [إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات: أشكره إذ لم تكن أعظم مما هي، وإذ رزقني الصبر عليها وإذ وفقني إلى الاسترجاع، يعني قول {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} وإذ لم يجعلها في ديني].

أخرج أحمد عن الحسين بن علي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: [ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها -أي مر بها الزمان- فيحدث لذلك استرجاعاً إلا جدد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها].

وأخرج الطبراني عن أبي بن كعب أنه [قال: يا رسول الله ما جزاء الحمى؟ قال: تجري الحسنات على صاحبها ما اختلج عليه قدم أو ضرب عليه عرق]، وقد بين أهل العلم كيفية تكفير السيئات بالمرض أو البلاء فأنت إما مأجور وإما مغفور لك ما سبق من الإساءة  قال النووي في شرح مسلم: فمن كانت له ذنوب مثلا أفاد المرض تمحيصها، ومن لم تكن له ذنوب كتب له بمقدار ذلك(أي كتب له أجر بقدر ما حل به من بلاء).

ولما كان الأغلب من بني آدم وجود الخطايا فيهم أطلق من أطلق أن المرض كفارة فقط، وعلى ذلك تحمل الأحاديث المطلقة، ومن أثبت الأجر به فهو محمول على تحصيل ثواب يعادل الخطيئة، فإذا لم تكن خطيئة توفر لصاحب المرض الثواب، والله أعلم.

وأخرج البيهقي في الشعب عن علي بن المديني قال: قيل لسفيان بن عينية: ما حد الزهد؟ قال: أن تكون شاكرا في الرخاء صابرا في البلاء، فإذا كان كذلك فهو زاهد. قيل لسفيان: ما الشكر؟ قال: أن تجتنب ما نهى الله عنه.

*وقد يكون نزول البلاء عقوبة إما على فعل المعاصي أو على ترك الشكر لله تعالى لذا فمن فوائد نزول البلاء والفتن أن يعود المرء لربه فيكفيه البلاء ويبعد عنه الفتن، فقد ورد أن العباس لما استسقى به عمر قال: اللَّهم إنه لا ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث) فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس.. أخرج ابن أبي الدنيا عن الحسن قال: إن الله ليمنع النعمة ما شاء، فإذا لم يشكر قلبها عذابا. وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن عمر بن عبد العزيز قال: قيدوا نعم الله بالشكر لله عز وجل، شكر الله ترك المعصية.

*ومن فوائد نزول المصائب والفتن أن يظهر للناس فعل أهل النفاق ويزول اللبس من حالهم عند نزول البلاء ولئلا يكون لهم عند الله حجة فيعاقبهم في الآخرة على ما أظهروه وبدا منهم من سوء الظن بالله وتخذيل المسلمين عن الحق، يقول تعالى  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (آل عمران: 156).

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا} يعني المنافقين. {وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ} يعني في النفاق أو في النسب في السرايا التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى بئر معونة. {غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} فنهي المسلمون أن يقولوا مثل قولهم، وأن يتذمروا كتذمرهم.

وقد وردت آيات كثيرة تفيد فشل المنافقين في الامتحان عند نزول البلاء، ويقول تعالى  {..وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} (آل عمران:154) قال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي ۚ أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ۗ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ۖ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ} (التوبة 49-50).

وقال تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} (الأحزاب 14).

وبعد فتلك بعض الفوائد والأسباب التي يكون بسببها نزول البلاء وحلول الفتن.. ومفتاح حل كل إشكال ومداواة كل جرح. هو اللجوء إلى ربك سبحانه سائلا إياه كشف الضر ورفع البلاء ومحتسبا عنده ما تعانيه راجيا جنته عائذا من غضبه به فلا ملجأ لك ولا منجى إلا إليه.. وهو سبحانه الرحيم الودود.

المصدر: موقع الأمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى