لماذا تتخلف الجاليات العربية في الغرب؟
بقلم أ. د. فؤاد البنا
تحكي حقائق الواقع البشري أن جوهر التخلف أو التقدم يكمن في الإنسان، وفقاً لما يحمل من قناعات ثقافية تذكي مسيرته نحو التقدم أو تُغريه بالانغراس في قلب التخلف. وينتصب وضع العرب في الغرب شاهدا حياً ومستمرا على هذه الحقيقة؛ فإنهم حينما ينتقلون إلى البلدان المتقدمة حضاريا، يبقون متخلفين في المجمل العام؛ في أهم القيم الحضارية ومفردات الفاعلية، من اهتمام بالعلم وعشق للحرية والعدالة ودأب في العمل وحرص على النظام وتضحية في سبيل المجموع، واعتزاز بالهوية وحرص على التميز دون خروج على النسق العام، إلى الحرص على أداء الواجبات وعدم التفريط بأي من الحقوق.
ومن الملاحظ في هذا الشأن أن العرب خاصة والمسلمين عامة، يبقون أسرى لثقافة التخلف التي تسكن أوطانهم منذ أمد من الزمان، ومن ثم فإن عللهم الفكرية وآفاتهم الاجتماعية تنتقل معهم إلى الغرب، لتبقى معاناتهم من الفتوق القائمة في البُنى الثقافية التي تصدر عنها السلوكيات، ومن ثم فإن البيئة المتقدمة لا تؤثر عليهم بالقدر الذي يظهر على أبناء البلد الأصليين، مع التأكيد على أننا نتحدث هنا عن القيم الإيجابية في الحضارة الغربية والمسؤولة عن ذلك التقدم الذي تحقق للمجتمعات الأوروبية والأمريكية.
وعند تأمل القرآن الكريم نجد أنه يؤكد على أن الخلل يكمن في جوهر الإنسان وليس في الأنظمة والقوانين التي تنظم حركة الإنسان فقط، كما في قوله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }، فقد جعلت الآية التغيير الاجتماعي ثمرة لتغيير ما في الأنفس من أفكار ومشاعر وقناعات سلبية أو إيجابية، مع استخدام أسلوب التوكيد المتمثل في حرف إن.
وفي هذا السياق هناك دراسات علمية وميدانية عديدة تثبت أن متوسط فاعلية الجاليات العربية في أمريكا وأوروبا، دون المتوسط العام للفاعلية في تلك البلدان بفارق ليس هيّناً ولا سيما بالمقارنة مع الجالية اليهودية، بل هي الأقل بين كافة الجاليات باستثناء الأفارقة السود.
وعلى سبيل المثال فإن فاعلية الجالية العربية في أمريكا أضعف من فاعلية الجالية المكسيكية واللاتينية عموما، والتي تنحدر من مجتمعات تُصنف على أنها مجتمعات متخلفة وتنتمي إلى بلدان العالم الثالث.
وهذا يؤكد مرة أخرى على أن جوهر التخلف يكمن في الثقافة التي يعتنقها الإنسان، فإن تغير الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الغرب قد حسّن بصورة نسبية من أداء العرب والمسلمين هناك مقارنة بأشقائهم في بلدانهم الأصلية، ولكن الفارق ما زال كبيرا بين المسلمين وغيرهم، رغم أنهم يعيشون في نفس المجتمع ويتعرضون لذات المؤثرات، ونستثني من الجاليات الإسلامية مجموعات صغيرة ممن أحسنوا فهم الإسلام وتمثلوا قيمه الحضارية، بعيدا عن التدين المنقوص الذي يمنح المرء شعورا خادعا بالطهورية والامتلاء وبامتلاك الحقيقة المطلقة!
ولو بحثنا في جذور ومنابع ضعف الفاعلية التي تصم أداء المسلمين في الغرب؛ لوجدنا حضورا قويا للمنظومة الثقافية التي يدينون لها بالولاء كما تتجسد في مجتمعاتهم لا كما تتجلى في دينهم، حيث يسود أغلب المسلمين اعتقاد جازم بأنهم بسلبيتهم عن معانقة الأسباب، ومعاقرتهم للخمول وضعف الإقبال على العمل وربما العطالة، إنما يندمجون في أقدار الله التي تبتلي المؤمنين وتجعل الدنيا سجنا لهم وجنة للكافرين، وأنهم يتحلون بالزهد والرضى المفقودين في الغرب، وأن الله سيعوضهم في الآخرة عما فاتهم في الدنيا بأضعافه من النعيم الذي لا نظير له ولا شبيه!
ويظن أصحاب هذا التدين أن اجتهادهم في محاريب الشعائر التعبدية يغنيهم عن الاجتهاد في محاريب العبادة العملية المستهدفة لعمارة الأرض وصناعة الحياة، بل يعتقد بعضهم أن العبادة تقتصر على ما يخص حقوق الله من اعتقاد وصلاة وصيام وحج وذكر، في صورة تقترب من التدين اللاهوتي الذي كان سائدا خلال القرون الوسطى في أوروبا، والذي ثار عليه مارتن لوثر في القرن السادس عشر وتسببت إصلاحاته في ظهور المذهب البروتستانتي الذي اقتبس الكثير من القيم الحضارية في الإسلام، وكأن مسلمي عصرنا قد تبادلوا المقاعد مع المسيحيين!
وبالطبع فإن هذا الأمر يلقي على عاتق طلاب الإصلاح ودعاة التغيير تبعات ثقيلة، حيث يجب أن لا تقتصر جهودهم الإصلاحية على النظم السياسية وما يتبعها من دساتير وقوانين، على أهميتها، بل ينبغي أن تنصب الجهود الرئيسية على التغيير الثقافي وإصلاح منظومة الأفكار، حتى ينتقل المسلم من غواية العلم المنقوص إلى الرشد العلمي، ومن العطالة الفارغة إلى العمل الفاعل، ومن الطقوسية الجوفاء إلى الانغمار في العبادة المقاصدية، بحيث تتسع دائرة العبودية لكافة قيم التقدم المادي والتفوق الحضاري، وامتلاك أسباب الفاعلية ومقاليد القوة الاقتصادية والسياسية والإعلامية والعسكرية، ويصبح شعور المسلم وهو يجسد القيم الحضارية في ميدان الحياة مثل شعوره وهو يعبد الله في محراب الصلاة!