لماذا استدعت الصين محاكم التفتيش الصليبية للإيغور؟!
بقلم أمير سعيد
قد يغرق المرء في محاولات تفسير ألوان الاضطهاد الذي يمارس ضد المسلمين حول العالم، أسبابه ودوافعه، وبحسبه أن يتأمل ها هنا الأصل والقاعدة: ﴿ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً﴾ (التوبة:8)، وإذا كان بعض الشر أهون من بعض؛ فبوسعه ببساطة أن يلحظ الفوارق بين اضطهاد المسلمين في الدنمارك وفرض غرامات على ملابس بعض المسلمات، وبين حرق المسلمين في ميانمار مثلاً، لكنه لن يعدم الفكرة بذاتها، أن ثمة درجات واسعة جميعها يندرج تحت باب الاضطهاد بعد الظهور والغلبة.
لكن يبقى أن فهم درجات هذا الاضطهاد يحتاج إلى نظر في غايات مرتكبيه منه، أكان حقداً مجرداً لا غير، أو كان خشية من مخاوف حقيقية من ذاك الدين الذي يعتنقه أكثر من ربع العالم.
يذكر التاريخ حقبة محاكم التفتيش البغيضة في أوروبا، وهي هيئات أنشأتها الكنيسة الرومانية الكاثوليكية للقبض على من أسمتهم بالهراطقة المارقين ومعظمهم من المسلمين الرافضين للتنصر قسراً، والتي امتدت إلى ما بين ثلاثة إلى خمسة قرون بدرجات متفاوتة، نال فيها المسلمون النصيب الأوفر من القهر والقمع والتعذيب والتقتيل البشع لثنيهم عن دينهم، ولضمان استتباب الأمر لحكام الأندلس الجدد، الملكة إيزابيلا وزوجها فرديناند، ولمن بعدهم في مجازر متتالية امتدت منذ أواخر القرن خامس العشر ولم تتوقف عند أكبر مجازرها في العام 1769م.
أما الحاضر فيشبه حالة مماثلة تماماً، تكاد تطابق تفاصيلها تلك المحاكم، غير أنها تستقوي بالتقنية الحديثة في ملاحقة المسلمين ومراقبة التعليمات الصارمة الصادرة إليهم في جمهورية تركستان الشرقية المحتلة من قبل الصين بمجافاة أحكام الإسلام وفرائضه وشرائعه؛ فآخر حلقات الملاحقة تلك، كما بثها نشطاء الإيغور المسلمين (التركستانيين) هي سجن مليون مسلم منهم في معسكرات اعتقال تحت دعوى التثقيف، بغية حرفهم عن دينهم تماماً والالتزام بالنظام الشيوعي المعادي للإسلام.
الصين لم توفر شيئاً من تقنيتها الحديثة لم تستخدمه، بدءاً من شرائح التجسس والتتبع للحجاج وغيرهم، ومروراً بمصادرة المصاحف وتفطير المسلمين قسراً ومنعهم من أداء الصلوات، ومن دون التوقف عند حدود وضع لافتات على منازل المسلمين لتعريف المفتشين الجدد بالأماكن التي يتعين عليهم اقتحام خصوصيتها للتنقيب عن مؤدي الفرائض والشعائر الإسلامية.
فظائع كثيرة تمارسها حكومة بكين ضد المسلمين في تركستان الشرقية، ما يجل عن الحصر، وهذا ربما بكل أسف وأسى قد صار اعتيادياً، لكن يدور تساؤل مشروع، حول ماهية هذا الاضطهاد، ولماذا هو كذلك يفوق غيره؟
إن المسلمين في الصين عموماً لا يعانون بالدرجة ذاتها التي تعانيها الغالبية المسلمة في تركستان الشرقية، فلماذا؟ هذا لأن حكومة بكين لا تخشى كثيراً من عشرات الملايين من المسلمين في سائر بلادها لأنها ببساطة مبعثرة وغارقة وسط محيط بشري يفوق المليار بوذي، ولهذا لا تراهم تحدياً حقيقياً لها.
كذلك؛ فإنه كما يقال “على قدر أهل العزم تأتي العزائم”؛ فلأن مسلمي تركستان الإيغور أكثر تمسكاً بالإسلام، وأكثرهم تمازجاً معه، وأقربهم عهداً لدولة إسلامية ممتدة عبر القرون، كان هذا التدجين بهذه القسوة والإجرام.
ولأن الإسلام متجذر في المنطقة، وله امتداداته العقدية والعرقية والجغرافية والتاريخية في آسيا الوسطى برمتها، والعالم كله يخشى من صحوة آسيا الوسطى جميعها: تركستان الشرقية، والغربية (أوزباكستان وطاجيكستان وأوزبكستان وقيرغيزستان وتركمانستان)، الأولى التي لم تزل تحتلها الصين، والثانية التي لم تزل تهيمن عليها روسيا، وتحرص كلا من موسكو وواشنطن على إبقائها دولاً ديكتاتورية تقمع ممارسة الشعائر الإسلامية. لأن العالم الشرقي والغربي يدرك مغبة قيامة هذه المنطقة من جديد، كان حريصاً على جعلها أشبه بسجن كبير يحيط بها وبهويتها واستقلالها ويغل نهضتها وتعرفها إلى أصولها العريقة الضاربة في أعماق تأريخ خطه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونظمه كوكبة علماء الحديث وسائر الفنون عبر القرون الفاضلة.
إن انعتاق تركستان المسلمة من نير الحكم الصين كفيل بأن يقدم للسياسة العالمية دولة ثرية في كنوزها المتعددة من نفط وغاز ويورانيوم وثروات متعددة، سيقودها حالئذ منظومة لا تنبت عن التاريخ الناصع السابق أو تجافيه. إن تحرر تركستان يعني افتقار الصين، ويؤدي إلى تفكك هذا العملاق، وتغير خارطة العالم كله، وبعثرة الأوراق، وطيش موازين مستقرة وفق نظام دولي جائر.
هذه المنطقة المعزولة عن العالم، المبتورة من الجسد الإسلامي، قد توافق عواصم الظلم منذ عقود على إبقائها على حالها البائس هذا من أجل عرقلة نمو إسلامي في أي بقعة من بقاع الإسلام، هكذا يقيدون بلاد الإسلام وهكذا يعزلونها ليسهل بلعها.. إنها شنشنة نعرفها من أخزم، وسنة درسناها بحروف الدم والألم دهوراً، وآمنها بحصولها دوماً كما يقرر ابن عاشور في تفسير تلك الآية السابقة أن هؤلاء ليسوا أهلاً لأن يوفوا بعهود، إلا أو ذمة، إن دوام العهد لهم ذلك، لا يتخلف أبداً متى ظهروا على المسلمين “وهي حالة ما يبطنونه من نية الغدر إن ظهروا على المسلمين، ممّا قامت عليه القرائن والأمارات” [التحرير والتنوير]، إنها السنن التي لا تتخلف مهما اختلفت التفاصيل وتنوعت الأسباب: ﴿ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ﴾.
(المصدر: موقع المسلم)