لماذا أخفق المشروع الليبرالي في الأردن؟
بقلم د. ناصر الزيادات
تفيد نظرية النخبة (Elite Theory) أنه -وفي أي مجتمع- هناك مجموعة صغيرة من الناس (النخبة) تمارس تأثيراً على الرأي العام وتتمتع بمزايا مادية ومعنوية لا تتناسب مع حجم تلك المجموعة مقارنة بحجم المجتمع. وأن تلك النخبة ستواجه تحديات مستمرة من قبل نخب صاعدة بمشارع جديدة بما قد يؤدي إلى خلل في النظام الاجتماعي وهيكل السلطة. وفي الوقت الذي تشعر فيه النخبة أن مصالحها مهددة بمشروع جديد فإنها تسعى إلى مواجهته بطريقتين: الأولى تتمثل في تحطيمه لإبقاء الحال على ما هو عليه، والثانية تتمثل في تقديم مشروع بديل يلغي المشروع المقدم ويبقي مصالح النخبة على ما هي عليه. وفي كلتا الحالتين تتصارع النخبة مع من يتحداها على كسب الرأي العام. تسعى هذه المقالة إلى الإجابة على السؤال الرئيس من خلال الإجابة على أسئلة ثلاث: من هي النخبة المسيطرة في الأردن وما هو مشروعها؟ وما هو المشروع الذي يتحدى مشروع النخبة؟ وكيف يتصارع المشروعان لكسب الرأي العام؟
لم يشهد الأردن صراعاً نخبوياً ظاهراً كما هو الحال في هذه الأيام. ورغم أن التاريخ يشي بأن مشروع “وصفي التل” رحمه الله كان مشروعاً متحدياً للنخبة السائدة آنذاك، إلا أن مشروعه النخبوي انتهى بموته. وطوال حكم الملك الراحل الحسين بن طلال لم يشهد الأردن مشاريع نخبوية حقيقية متحدية للمشروع القائم، بل كانت كل الأمور تؤول إلى ما يراه الملك ذو الشخصية الكاريزمية الذي استطاع طوال أيام حكمه كسب الشارع إلى صالحه والإطاحة بكل من يحاول أن ينتج مشروع يمكن أن يغير الوضع القائم آنذاك.
وعندما استلم الملك عبدالله سلطاته في أواخر تسعينيات القرن المنصرم، طفا على السطح مشروعان انتهى أحدهما بتسوية الأمر لصالح الملك الشاب كمشروع جديد وجد له نخبة جديدة تحيط به وتتبناه. في حقيقة الأمر، كان المشروع النخبوي للملك عبدالله ومن حوله مشروع مختلف من حيث الأيديلوجية، ومن حيث أنه مشروع متحد للمشروع الذي قامت عليه الدولة منذ عقود. فهل نجح مشروع الملك عبدالله ومن حوله من النخبة في النجاح بالإطاحة بالمشروع أو المشاريع القديمة؟
لم يخفي الملك عبدالله والنخبة المحيطة رغبتهم بل وسعيهم في تبني الليبرالية والعلمانية كأساس أيديولوجي في إدارة الدولة. وقد عمل أصحاب المشروع على تغيير المناهج الدراسية بما يتناسب مع رؤاهم، كما عملوا على التوسع في تحرير الاقتصاد والخصخصة. لكن هذا المشروع شابه الكثير من الإخفاقات التي أدت إلى عدم تحقيق هدفه الأسمى: كسب الرأي العام. فلماذا لم ينجح مشروع الليبرالية في كسب الرأي العام الأردني؟
هناك العديد من العوامل التي أدت إلى رفض جل الشارع الأردني لمشروع الليبرالية. فعمليات تحرير الاقتصاد والخصخصة لم يسبقها توعية بالمفهوم الشمولي لليبرالية لوضع الشارع الأردني في صورة ما هو مقدم عليه. كما تمت عمليات الخصخصة بشبهات فساد كشف عنها تقرير تقييم التخاصية الذي قامت به لجنة مكلفة من الملك وبرئاسة عمر الرزاز قبل أن يصبح رئيساً للوزراء. ولم يتم إطلاع الشارع على أمور تخلي الدولة عن بعض أنواع الرفاه ودعم السلع الأساسية. وما زاد الطين بلة أن مجالس النواب المنتخبة منذ ذلك الحين حتى الآن ما هي إلا أحجار على رقعة شطرنج، فضلاً عن تدخل الأجهزة الأمنية في الانتخابات من أجل ضمان وصول من يضمن صوته وتوقيعه على أي قرار يمكن اتخاذه.
ومن الأمور الهامة التي يغفل عنها الكثير، أن النظام القانوني للدولة لم يتم تحديثه قبل عمليات الخصخصة ليتلاءم مع متطلبات الليبرالية. فكان ذلك مدعاة للكثير من عمليات الفساد. وخلال عقدين من الزمن بدأت آثار تلك الإخفاقات الجوهرية بالظهور على السطح، وبدأ الشارع الأردني يستوعب حقيقة ما جرى. وحتى نوجز الأمر في هذه العجالة: أن مشروع الليبرالية، الذي جاء متحدياً للمشروع القائم قبله، لم يستطع أن يطبق الليبرالية الديموقراطية ومتطلباتها من الشفافية والعدل والمساواة، بل أخفق من حيث أن الشارع أصبح يراه بأنه مشروع سلطوي شابه الفساد والتنفع من قبل النخبة التي تبنته وطبقته. فهل يوجد في الأردن مشروع نخبوي آخر متحدٍ لمشروع الليبرالية؟
مما لا شك فيه أن غالبية الشارع الأردني تتسم بالمحافظة على القيم العربية والإسلامية التي تتعارض في كثير من الأحيان مع الصيغة الليبرالية التي روج لها في الأردن خلال العقدين الأخيرين من الزمن. إلا أن النخبة التي تتبنى المشروع المحافظ لا تزال غير واضحة المعالم لأسباب عدة منها الأسباب الأمنية، ومنها التحييد التاريخي للنخب الفكرية من قبل الدولة شأنها شأن أي نظام عربي في المنطقة. فأساتذة الجامعات والأكاديميين لا يحصلون على وظائفهم إلا بموافقات أمنية، وإن أخلوا بشروطها فقدوا وظائفهم. ومراكز الدراسات والأبحاث، إن وجدت، فهي ناضبة إلا بما يخدم الفكر الذي يراد له أن يسود. وأصحاب رؤوس الأموال يلتزمون الصمت من باب أن “رأس المال جبان”.
لكن وسائل التواصل الاجتماعي أسهمت، بشكل كبير، في بلورة العديد من الأفكار والمفاهيم التي من شأنها أن تشكل مشروعاً متحدياً لمشروع الليبرالية المنقوص القائم حالياً. المشكلة، وربما الحل، تكمن في أن هذا المشروع ليس نخبوياً من جهة، وأن هناك من يركب موجته من النخبة القديمة التي تضررت من مشروع الليبرالية أو التي لم تتنع منه إن جاز التعبير. كما أن وسائل التواصل الاجتماعي يمكن اختراقها من جهات خارجية- عربية وغير عربية- تهدف إلى إحداث البلبلة في البلاد من أجل الضغط على الدولة للتسليم لأخطر المشاريع التي تواجهها: صفقة القرن.
من أبرز إخفاقات مشروع نخبة الليبرالية أنها فشلت في كسب الرأي العام الأردني للأسباب التي وردت سابقاً. بل إن هناك أسباب أخرى أسهمت في فقد الرأي العام، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، أن مشروع الليبرالية الذي تدعمه الدولة لا يزال يتعامل باستعلاء مع الشعب رغم أنه من المفترض أن يكون مروجاً للمساواة وحقوق الإنسان التي تقتضيها الليبرالية. كما يتميز مشروع الليبرالية ومن يؤيده بأنه مفصوم عن الواقع الأردني ويتحدث بلغة بعيدة كل البعد عن تطلعات الناس وهمومها وعاداتها وتقاليدها.
وفي المقابل، تمكن المشروع المحافظ، رغم أنه غير نخبوي، من نشر مفاهيمه وتعميمها على الرأي العام الذي بدأ يتلقاها بالقبول التدريجي حتى وصل الأمر إلى القبول شبه العام في أحداث إضراب المعلمين مطلع العام الدراسي الحالي. ورغم أن الدولة، بمشروعها الليبرالي المنقوص، تحاول تقويض المشروع المحافظ حتى على وسائل التواصل الاجتماعي إلا أن التطور التكنولوجي وازدياد الوعي به أصبح في صالح المشروع المحافظ. فعلى سبيل المثال، روجت حسابات وهمية، على أكبر صفحة مؤيدة لإضراب المعلمين على فيسبوك، فيديوهات قديمة للوزير السابق ذوقان عبيدات من أجل تشتيت الرأي العام الذي وحده إضراب المعلمين. كما قامت العديد من الحسابات الوهمية بنشر منشورات فيها نوع من التطرف على الصفحات الداعمة للإضراب من أجل تخويف الناس من حقيقة تلك الصفحات والقائمين عليها. لكن متابعة التعليقات على تلك المنشورات توضح أن الشارع أصبح أكثر وعياً من حيث التعرف على الحسابات الوهمية وأهداف ما تنشره.
لم تنجح النخبة الليبرالية في الأردن بكسب الشارع الأردني من أجل تمرير مشروعها، فضلا عن الفساد الذي رافق الكثير من تلك النخبة. ورغم أن المشروع المتحدي لليبرالية (المشروع المحافظ) لا يتميز بكونه نخبوي بسبب محاصرة الدولة للنخب المخالفة لها، إلا أنه يمكن وصفه بأنه سلاح ذو حدين: قد ينتج مشروعاً جيداُ لكنه لا يخلو من تدخل المتنفعين أو الجهات الخارجية. وحتى تتجنب الدولة ما لا يحمد عقباه، عليها أن تتفهم متطلبات الشارع وتعالج همومه ويتنازل القائمين عليها من علوهم. وعليها أن تطلق الحريات وتحقق التلاقح الفكري بين النخب وتشجعها على الإنتاج المعرفي. وعليها قبل كل شيء أن تتذكر أنها دولة مواجهة مع أكبر كيان يريد لها أن لا تكون إلا كما يريد، أو لا تكون، وأن ذلك الكيان يزداد عنصرية وشعبوية وتطرفاً دينياً يوماً بعد يوم. فهل ستعمل الليبرالية المزعومة على إيجاد عقيدة تواجه كياناً عدائياً؟ ربما يكون الحل في تطبيق مشروع ليبرالي ديموقراطي شبيه بالنموذج التركي أو الماليزي وإلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.
(المصدر: مدونات الجزيرة)