بقلم احسان الفقيه – ترك برس
لم تأت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مقابلة بثتها قناة الجزيرة مساء الأربعاء 19 أبريل/ نيسان من فراغ، وهو يتحدث عن السعي الإيراني لتشكيل “قوة فارسية” في إطار مشروع يستهدف أربعة من بلدان الشرق العربي، يحمل “صفة قومية فارسية” لتقسيمها، في الوقت الذي يصرح فيه مسؤولون إيرانيون بأنّهم “مع وحدة التراب” في سياسة وصفها الرئيس أردوغان بسياسة “التوسع الفارسي”.
تركيا ودول أخرى معنية بالمتغيرات في عموم المنطقة، تدرك تماما المساعي الجادة لإيران، لفرض نفوذها الإقليمي وهيمنتها على جغرافية سُنّية في العراق وسوريا واليمن ولبنان.
لا يُخفي الإيرانيون حقيقة مشروعهم الذي يرمي إلى بسط نفوذهم العلني من طهران إلى شواطئ البحر المتوسط عبر جغرافية متصلة من طهران مرورا بالعراق وسورية وصولا إلى البحر المتوسط؛ ونفوذ آخر أقل علانية يتجه نحو دول الخليج العربي بالانطلاق من العراق الذي تسيطر عليه قوى سياسية وأمنية موالية لايران، ومن اليمن مستغلين سيطرة أحد أهم أذرعهم المعروفة باسم جماعة أنصار الله على العاصمة صنعاء ومدن أخرى.
كما تدرك تركيا أن البلدان العربية الأربعة باتت تشكل “العمق الاستراتيجي للأمن القومي الإيراني” وتخضع بشكل أو بآخر لسلطات مركز الحكم الإيراني في طهران.
وتحاول إيران تأمين ما تراه عمقها الاستراتيجي خارج حدودها الجغرافية بالاعتماد على مجموعات طائفية مسلحة يتحدث قادة في الحرس الثوري عنها بصفتها “جيوش شعبية مرتبطة بالثورة الإسلامية في العراق وسوريا واليمن يبلغ حجمها أضعاف حزب الله في لبنان”، تسعى لتغيير موازين القوى في المنطقة لصالح إيران، كما ورد في تصريحات تناقلتها وسائل إعلام في 31 ديسمبر/ كانون الأول 2014 لنائب رئيس الحرس الثوري.
وتعتمد إيران في تعزيز نفوذها وهيمنتها على قوى محلية تدين لها بالولاء، مثل الحشد الشعبي في العراق؛ الذي وصفه الرئيس التركي بأنه “منظمة إرهابية” تحظى بتأييد مجلس النواب العراقي في قتالها على جبهات مثل جبهتي سنجار وتلعفر في محافظة نينوى.
هناك ثمة ما يبرر التخوفات التركية من انتهاكات متوقعة على يد الحشد الشعبي ستطال سكان مدينة تلعفر بعد استعادتها من تنظيم داعش؛ وتفرض فصائل من الحشد الشعبي حصارا على المدينة منذ 29 أكتوبر/ تشرين الأول 2016 بهدف اقتحامها والسيطرة عليها.
تضم مدينة تلعفر نحو 400 ألف نسمة عند غزو العراق في 2003، لكن دخول العراق في موجة الحرب الاهلية بين عامي 2006 و2008 قلّص هذا العدد إلى النصف تقريبا؛ ويقطن المدينة المحاصرة نحو 200 الف نسمة من التركمان السُنّة والتركمان الشيعة، لكن تركيا تنظر إلى سكان المدينة من منظور الانتماء العرقي، وتقف على مسافة واحد من الجميع سواء التركمان السُنّة أو التركمان الشيعة.
في مقابل الموقف التركي المتوازن البعيد عن “الطائفية” رفضت قيادات الحشد الشعبي التصريحات التي أدلى بها الرئيس التركي – ووصف فيها الحشد الشعبي بأنه “منظمة طائفية” -بتصريحات غلب عليها طابع “الاستخفاف والسخرية” جاءت على لسان قائد منظمة بدر هادي العامري، الذي زعم أن تصريحات الرئيس التركي جاءت “تغطية على حمايته للإرهابيين”، واصفا القوات التركية في شمال الموصل بأنها “قوة احتلال”.
ومع كل الإدانات التي وجهتها منظمات حقوقية دولية معنية بتوثيق الانتهاكات ضد حقوق الانسان، وتأكيد هذه المنظمات على مسؤولية الحشد الشعبي، ومنظمة بدر، عن جرائم ترقى “لجرائم الحرب”، إلا أن العامري أعلن أنه يفتخر ويؤهو بوصف الحشد الشعبي بأنه “منظمة إرهابية” في عدم اكتراث واضح بحقوق الانسان واستخفاف بالدماء التي تسفكها مثل هذه المنظمات التي ينتمي إليها ويقود إحداها.
إطلالة على الحشد الشعبي
تأسس الحشد الشعبي بموجب فتوى دينية أصدرها المرجع الشيعي العراقي علي السيستاني في 13 يونيو/ حزيران 2014 بعد ثلاثة أيام من سقوط مدينة الموصل بيد تنظيم داعش.
ويتشكل الحشد الشعبي من متطوعين شيعة في معظمهم، ومجموعات شيعية مسلحة معروفة باسم الميليشيات، ظهرت بعد غزو العراق في 2003، وقسم منها تشكل في إيران خلال حرب الخليج الأولى في الثمانينيات، ومن بينها منظمة بدر.
وترعى الحكومة العراقية هذه الميليشيات التي تقودها قيادات سياسية أو دينية متنفذة مرتبطة بالسياسات الإيرانية في معظم الأحيان.
تشكل الميليشيات العمود الفقري للمؤسسات الأمنية والعسكرية التي تم إعادة تشكيلها في عام 2005 بما عرف باسم “دمج الميليشيات” خلال عهد رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم الجعفري، لتكون أساس بنائها بعد قرار سلطة الائتلاف حل الجيش والقوات الأمنية، واستمرت عملية الدمج بعد تسلم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي السلطة في العام 2006.
وساهمت هذه الميليشيات في دورات الصراع الطائفي خاصة بعد تفجيرات سامراء 2006، واستمرت في ممارسة انتهاكات جسيمة ضد السُنَّة، كما وثقتها منظمات محلية ودولية. ومن أبرز تلك الجماعات والمنظمات:
منظمة بدر
تأسست منظمة بدر مطلع ثمانينيات القرن الماضي أوائل سنوات حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، من مجموعة جنود وضباط من أسرى الحرب، كانوا قد كلفوا من قِبل إيران بالتحقيق مع الأسرى العراقيين بقيادة محمد باقر الحكيم، وبإشراف ودعم مباشر من الحرس الثوري الإيراني.
وتُشير بعض التقديرات إلى أنّ المنظمة تضمُّ عشرات الآلاف من المقاتلين بعد أحداث الموصل، وقُدّرت أعدادهم ما بين 10 إلى 15 ألفًا من المقاتلين وغير المقاتلين المنتسبين إليها عند احتلال العراق.
وأعلنت منظمة بدر عن تحولها إلى منظمة مدنية بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، لكنها ظلت تمتلك جناحا مسلحا مارس انتهاكات جسيمة وثقتها منظمات دولية.
وتفرض منظمة بدر سيطرتها ونفوذها على محافظة ديالى على الحدود مع إيران، إضافة إلى أن وزارة الداخلية العراقية تخضع بشكل كامل لقرار قيادة منظمة بدر. وكان آخر وزير لها هو الرجل الثاني في منظمة بدر، محمد الغبان الذي قدّم استقالته في 5 يوليو/ تموز 2016 على خلفية تفجير حي الكرادة وسط العاصمة، وخلفه القيادي في المنظمة قاسم الأعرجي الوزير الحالي.
مع تشكيل قوات الحشد الشعبي، انخرطت منظمة بدر/الجناح العسكري، كأحد أهم الفصائل في خط المواجهات مع تنظيم داعش؛ ومنذ ذلك الوقت يظهر هادي العامري مرتديًا الزي العسكري في مناطق القتال، في ديالى وآمرلي والفلوجة وتكريت، وظهر أكثر من مرة في محافظة نينوى خلال المعارك الأخيرة.
وأدرجت دولة الامارات العربية المتحدة منظمة بدر على قائمة المنظمات الإرهابية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015.
لا تخفي منظمة بدر عملها “تحت أمر ولاية الفقيه”، وأنها توجهت إلى جبهات القتال في سورية والعراق بتكليف شرعي من المرشد الأعلى علي الخامنئي قبل إصدار فتوى المرجع الشيعي علي السيستاني، كما جاء في الجريدة الرسمية للمنظمة في 18 سبتمبر/ أيلول 2014.
ويبلغ عدد الفصائل المسجلة في هيئة الحشد الشعبي أكثر من 70 فصيلًا لكلّ منها هيكله التنظيمي الخاص به، وساحة عمله التي توزعت بين سوريا والعراق.
تتبع فصائل الحشد الشعبي لمرجعيات دينية ترتبط معها بما يعرف باسم “البيعة الشرعية”، ومن بينها 41 فصيلا يتبع مرجعية المرشد الإيراني الأعلى علي الخامنئي؛ من أبرزها، فيلق بدر، وكتائب حزب الله العراقي وعصائب أهل الحق وكتائب سيد الشهداء وحركة النجباء والتيار الرسالي وكتائب الإمام علي ولواء أبو الفضل العباس وسرايا الخراساني.
انتهاكات منظمة بدر ترقى لجرائم الحرب
منذ أحداث الموصل 2014 وثقت منظمات دولية معنية بحقوق الانسان جرائم وانتهاكات ضد العرب السُنّة في مناطق مختلفة؛ وأجمعت تلك المنظمات على تسمية منظمة بدر من بين المنظمات التي ترتكب انتهاكات ضد العرب السُنّة على أسس طائفية إلى جانب فصائل أخرى.
ففي أكتوبر/ تشرين الأول 2014 أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرا حمل اسم “إفلات تام من العقاب.. حكم الميليشيات في العراق” أدان “استهداف الميليشيات الشيعية بوحشية، المدنيين السُنّة على أساس طائفي تحت مسمى مكافحة الإرهاب”؛ ووثق التقرير أدلة تثبت ارتكاب جرائم حرب على أيدي الميليشيات الشيعة بدعم من الحكومة العراقية.
وأشار التقرير إلى مسؤولية أربع منظمات بالدرجة الأولى عن تلك الانتهاكات، في مقدمتها منظمة بدر وعصائب أهل الحق وحزب الله العراقي وجيش المهدي.
ونوه التقرير إلى أن هذه المنظمات “أصبحت أكثر قوة إبان انهيار الجيش العراقي”، وهي عبارة عن “ميليشيات شيعية تستخدم الحرب ضد تنظيم داعش كذريعة لشن هجمات انتقامية ضد السُنّة”؛ وذكرت أن هذه الميليشيات “خطفت أكثر من 170 عراقيًا في يونيو/ حزيران 2014 من مدينة سامراء السنية التي تقع شمال بغداد”.
كما اتهمت منظمة هيومن رايتس ووتش في 31 يناير/ كانون الثاني 2016، الحشد الشعبي بارتكاب جرائم ضد المدنيين العرب السُنّة “قد ترقى لجرائم الحرب”؛ ووثقت عمليات اختطاف وقتل العشرات من السُنّة وهدم منازل ومساجد ومتاجر سُنّية، قائلة إن هذه التصرفات قد ترقى إلى “جرائم حرب”.
وادرجت المنظمة فصيلي منظمة بدر وعصائب اهل الحق في مقدمة الفصائل المسؤولة عن تلك الجرائم؛ لكن القيادي في منظمة بدر، كريم النوري، الذي شغل أيضا موقع المتحدث باسم الحشد الشعبي، رد على تقرير المنظمة، واصفا إياه “بعدم الحيادية”.
وحمّلت منظمة هيومن رايتس ووتش الحكومة العراقية المسؤولية عن أفعال الحشد الشعبي، منذ ضمها رسميا إلى الجيش العراقي في 7 أبريل/ نيسان 2015.
أما مركز جنيف الدولي للعدالة فقد أصدر تقريرا بعنوان “جرائم التطهير العرقي والطائفي في ديالى”، في 16 يناير/ كانون الثاني 2016 سرد فيه بعض حوادث القتل الطائفي التي تمارسها المليشيات الشيعية ضد السكان السُنة “بمشاركة الأجهزة المرتبطة بالسلطة القائمة في العراق”؛ وعمليات التطهير، التي قال التقرير، إن الهدف منها إحداث تغيير ديمغرافي (لمصلحة الشيعة على حساب السُنّة)، وأشار إلى مسؤولية عدد من الميليشيات الشيعية من بينها منظمة بدر ذات النفوذ الواسع في محافظة ديالي عن تلك العمليات.
انتهاكات الحشد الشعبي ومصير العرب السُنّة
تؤكد الانتهاكات الطائفية على وجود “حملة إبادة منظمة تُرتكب ضد المكوّن السُنّي من قِبل ميلشيات مسلحة”؛ وليس هناك ثمة أيّ صلة لتلك الانتهاكات بالحرب على تنظيم داعش، إنّما هي محاولات لإجراء تغييرات ديموغرافية “تنفيذاً لمشروعٍ إيراني للسيطرة على المناطق السُنيّة في البلاد”؛ وهو ما عبر عنه الرئيس التركي في تصريحاته لقناة الجزيرة فيما يتعلق بانشاء “قوة فارسية”.
يمكن القول إنّ فتوى “الجهاد الكفائي” التي تشكل بموجبها الحشد الشعبي قد أسست لواقع جديد يتمثل في تغيير صورة الصراع الدموي في العراق، من صراع بين جماعات مسلحة والدولة العراقية، إلى صراع بين مكونات المجتمع العراقي على أسسٍ طائفيةٍ بحتة تشكل فصائل الحشد الشعبي رأس الحربة فيها.
وبإعلان فتوى “الجهاد الكفائي” يكون العراق قد دخل مرحلةً جديدةً أسست لانقسامٍ مجتمعي خطير على أساس طائفي؛ كما أنّ هذه الدعوة وحجم الاستجابة لها أعطت صورةً واضحة عن الدور السياسي الكبير الذي تلعبه المرجعية الدينية في قيادة البلد ورسم مساراته، إضافة إلى تعزيز النفوذ الإيراني عبر الحشد الشعبي، ذراعه العامل في العراق.