من أشهر ما جاء في توقير العلماء مقولة ابن عساكر الشهيرة”اعلم يا أخي … أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة”.
ويبدو أنها من أشهر المقولات التي أسيء فهمها، فحُمِّلتْ ما لا تحتمل، وأوردها بعضهم في غير مرادها، وأساءت لهذه المقالة طائفتان، فطائفة أجروا معناها على عمومٍ لا يحتمله لفظها، وطائفة أخرى جعلوا لها مفهوماً لا تحتمله، وكلٌ ظلم ابن عساكر في مقالته من وجهٍ لا يحتمله منطوقها، ولا مفهومها.
أما الطائفة الأولى فأضفوا بها على أقوال العلماء عصمةً فوق عصمة أعراضهم، ورفعوها سوطاً يضربون به من يُبدي استدراكاً على عالمٍ في”رأي”أو انتقاداً لـ”اجتهاد””حتى ولو لم يَنل عرضه بانتقاص أو سخرية، فخلّطوا بين”أعراض”العلماء و”أقوالهم”، وصاروا يقرأون كلمة ابن عساكر “آراء العلماء مسمومة”! وصار شيخهم وكل ما يصدر عنه مسموم معصوم بما لا يدل عليه كتاب، ولا سنة، ولا قول مأثور عن سلف، وشوَّهوا مقالةَ ابنِ عساكر، مع أن سياق كلامه يردُّ هذا الفهم الغالي في العلماء؛ لأنه قال”وعادة الله في منتقصهم معلومة”والانتقاص غير الانتقاد والاستدراك، وهو يدل على قصر الحرمة والعصمة على العِرض.
إن ابن عساكر ـ رحمه الله ـ بريء من هذا الفهم المغلوط، فهو حين قال:”لحوم العلماء مسمومة”لم يأتِ إلا بما قرره القرآن بأسلوب أبلغ:”أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه”، وما زاد ـ رحمه الله ـ على دلالة الآية سوى أنْ أكّد حرمةَ الوقيعة في”أعراض”العلماء”لشريف مقامهم في الدين.
وأما الطائفة الأخرى فظلت من حين ظنت أن ابن عساكر أراد بمقولته قصرَ الحرمة على لحوم العلماء وأعراضهم دون غيرهم من سائر المسلمين! والفهم الصحيح لدلالات الألفاظ يُبرئ المقولة من هذه التهمة، فقوله:”لحوم العلماء مسمومة”لا يدل بمنطوقة ولا بمفهومه على أن لحوم غيرهم غير مسمومة، ولا أن أعراضهم مستباحة، وإنما نصّ على العلماء تأكيداً على عظم حرمتهم، وتحذيراً من عاقبة انتقاصهم، فذاك سبيل سلكه القاصدون انتقاص الدين والطعن فيه، وما نصُّه على لحوم العلماء إلا كنصِّه ـ سبحانه ـ على النهي عن الظلم في الأشهر الحرم بقوله:” فلا تظلموا فيهن أنفسكم”، ولم يفهم أحدٌ من هذا التنصيص أن الظلم في غير الأشهر الحرم مباح.
من المفارقة المحزنة أن بعضاً ممن يرددون هذه المقالة في كل محفلٍ، ويقذفون بها في وجه كل مستدركٍ على شيخهم ـ تجدهم لا يتورعون عن النهش في لحومٍ هي الأخرى مسمومة عظّم القرآن حرمتها في آيات محكمات ، يسوقهم إلى ذلك غلوهم في توقير شيخهم ، فما تكاد تجد مستدركين على شيخٍ إلا وتجد أتباعه قد بادروهم فسلقوهم بألسنة حِداد، وهذا ـ بلا شك ـ محسوب من الخلل في المنهج ونقص التدين؟! وإلا فإن بعض من ينتقد ويستدرك على عالمٍ في مسألة لا يخرج خطئه ـ إن وجد ـ عن سوء الفهم وخطأ التصور للمسألة؛ فزلق مزلق النقد بجهل؛ لكنّ هذا كاف ـ عند أتباع ذلكم الشيخ ـ ليكون مستباح العرض.
إن الحق ـ الذي أعماهم التعصب عنه ـ يقول لهم : من نقدَ بأدب، وجب أن يرد عليه بأدب، والنقد لا يعرف شيخاً ولا غيره، وما منا إلا راد أو مردود عليه ؛ إلا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن كان حقاً وجب قبوله، ومن تعالى عن قبوله ففي قلبه كِبر، وإن كان باطلاً، فلا أفضل من أن يُردَّ الباطلُ بالحق، والنفوس الكبار تترفع عن مخاض الصغار.
لقد كان الأولى أن يحفظ هؤلاء ويرددوا:”لحوم المسلمين كلها مسمومة”قبل أن يستحفظوا مقالة ابن عساكر ويرددوها “لحوم العلماء مسمومة”.
حفّظوا أولادكم أن”لحوم المسلمين كلها مسمومة، وعقوبة الله تعالى لمن تعرض لها معلومة”؛حتى يفهموا مقالة ابن عساكر على وجهها، فلا يسيئوا استعمالها، ولا يحمّلوها ما لا تحتمل. ودامت لحومنا بخيرٍ معصومة ما دامت بحرمة الإسلام مسمومة!
المصدر: الاسلام اليوم.