مقالاتمقالات المنتدى

(لا يَأتيهِ البَاطلُ) (14) من صور الإعجاز العلمي في القرآن الكريم: آية الليل وآية النهار

(لا يَأتيهِ البَاطلُ) (14)

من صور الإعجاز العلمي في القرآن الكريم:

آية الليل وآية النهار

 

 

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

قال تعالى:” وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً” (الإسراء، آية : 12).

يمتن تعالى على خلقه بآياته العظام فمنها مخالفته بين الليل والنهار، ليسكنوا في الليل وينتشروا في النهار للمعايش والصنائع والأعمال والأسفار، ليعلموا عدد الأيام والجمع والشهور والأعوام، ويعرفوا مضيّ الآجال المضروبة للديون والعبادات والمعاملات والإجارات وغير ذلك، ولهذا قال: ” لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ” أي: في معايشكم وأسفاركم ونحو ذلك “لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ” فإنه لو كان الزمان كله نسقاً واحداً، وأسلوباً متساوياً لما عرف شيء من ذلك، كما قال تعالى:” قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ  سَرْمَدًا إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” (القصص، آية : 71 ـ 73).

ثم إنه تعالى، جعل الليل آية، أي: علامة يعرف بها وهي الظلام وظهور القمر فيه، وللنهار علامة وهي النور، وطلوع الشمس النيرة فيه، وفاوت بين نور القمر وضياء الشمس ليعرف هذا من هذا، كما قال تعالى:” هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ” (يونس، آية : 5 ـ 6). وقال تعالى:” يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ” (البقرة، آية : 189).(ابن كثير،1999، 2/630)

وفي هذه الآية الكريمة يذكرنا ربنا سبحانه وتعالى بأنه قد جعل الليل والنهار آيتين من آياته الكونية المبهرة التي تدل على طلاقة قدرته، وبالغ حكمته، وبديع صنعه في خلقه، فاختلاف هيئة كل من الليل والنهار في الظلمة والنور، وتعاقبهما على وتيرة رتيبة، ليدل دلالة قاطعة على أن لهما خالقاً قادراً عليماً حكيماً.(النجار،2007، ص419)

الليل والنهار آيتان كونيتان عظيمتان من آيات الله في الخلق، تشهدان بدقة بناء الكون وانتظام حركة كل جرم فيه، وإحكام السنن الضابطة له، ومنها تلك السنن الحاكمة لحركات كل من الأرض والشمس والتي تتضح بجلاء في التبادل المنتظم للفصول المناخية، ولكل من الشهور والسنين، والتعاقب الرتيب لليل والنهار، وما يصاحب ذلك كله من دقة وإحكام بالغين.. فنحن نعلم اليوم أن التبادل الرتيب بين الليل المظلم والنهار المنير هو من الضرورات اللازمة للحياة على الأرض، ولاستمرارية وجود تلك الحياة بصورها المختلفة حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، فبهذا التبادل بين الظلام والنور يتم التحكم في درجات الحرارة والرطوبة على سطح الأرض وفي غلافها الغازي القريب من ذلك السطح، ويتم التحكم كذلك في كميات الضوء اللازمة للحياة في مختلف البيئات الأرضية، كما يتم التحكم في العديد من الأنشطة والعمليات الحياتية من مثل التنفس، والنتح، والتمثيل الضوئي وغيرها، ويتم ضبط التركيب الكيميائي للغلاف الغازي المحيط بالأرض، وضبط صفاته الطبيعية، وتتم دورة الماء بين الارض والسماء والتي لولاها لفسد كل ماء الأرض، كما يتم ضبط حركات كل من الأمواج والتيارات المختلفة في البحار، ومن أهمها حركات المد والجزر، ويتم التحكم كذلك في تصريف الرياح وتسخير السحاب، وإنزال المطر بإذن الله، ويتم من خلال ذلك كله تفتيت الصخور، وتكون التربة بمختلف أنواعها، ومنها الصالحة للإنبات وغير الصالحة، وترسب الصخور ومنها وتركيز مختلف الثروات الأرضية، وإتمام غير ذلك من العمليات والظواهر التي بدونها لا يمكن للأرض أن تكون صالحة للعمران.

وتعاقب الليل والنهار على نصفي الأرض هو كذلك ضروري للحياة، لأن جميع صور الحياة الأرضية لا تتحمل مواصلة العمل دون راحة وإلا هلكت، فالإنسان والحيوان والنبات وغير ذلك من أنماط الحياة البسيطة يحتاج إلى الراحة بالليل لاستعادة النشاط بالنهار أو عكس ذلك بالنسبة لأنماط الحياة الليلية.

فالإنسان ـ على سبيل المثال ـ يحتاج إلى أن يسكن بالليل فيخلد إلى شيء من الراحة والعبادة والنوم مما يعينه على استعادة نشاطه البدني والذهني والروحي، وعلى استرجاع راحته النفسية، واستجماع قواه البدنية حتى يتهيأ للعمل في النهار التالي وما يتطلبه ذلك من قيام بواجبات الاستخلاف في الأرض، وقد ثبت بالتجارب العملية والدراسات المخبرية أن أفضل نوم الإنسان هو نومه بالليل، خاصة في ساعات الليل الأولى، وأن إطالة النوم بالنهار ضار بصحته لأنه يؤثر على نشاط الدورة الدموية تأثيراً سلبياً، ويؤدي إلى شيء من التيبس في العضلات والتراكم للدهون على مختلف أجزاء الجسم، وإلى زيادة في الوزن، كما يؤدي إلى شيء من التوتر النفسي والقلق وربما كان مرد كله إلى الحقيقة القرآنية التي مؤداها أن الله سبحانه وتعالى قد جعل الليل لباساً، وجعل النهار معاشاً وإلى الحقيقة الكونية التي مؤداها أن الانكماش الملحوظ في سمك طبقات الحماية في الغلاف الغازي للأرض ليلاً، وتمددها نهاراً يؤدي إلى زيادة قدراتها على حماية الحياة الأرضية بالنهار عنها في الليل حين يقل سمك طبقات الحماية الجوية تلك بدرجات كبيرة قد تسمح لعدد من الأشعات الكونية بالنفاذ إلى الطبقات الدنيا في الغلاف الغازي للأرض، وهي أشعات مهلكة مدمرة لمن يتعرض لها لمدد كافية، وهنا كان ذلك الوصف القرآني بالاستخفاء في الليل والظهور في النهار وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ” (الرعد، آية : 10).

ومن هنا أيضاً كان أمره إلى خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ بالله تعالى من شر الليل إذا دخل بظلامه وأن يلتجئ إلى الله ويعتصم بجنابه من أخطار ذلك فقال سبحانه :” وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ” فهذا الشر ليس مقصوراً على الظلمة وما يمكن أن يتعرض فيها المرء إلى مخاطر البشر، بل قد يمتد إلى مخاطر الكون التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى ثم إن هذا التبادل في اليوم الواحد بين ليل مظلم ونهار منير، يعين الإنسان على إدراك حركة الزمن، وتاريخ الأحداث وتحديد الأوقات بدقة وانضباط ضروريين للقيام بمختلف الأعمال، ولأداء جميع العبادات، وللوفاء بمختلف العهود والمواثيق والحقوق والمعاملات، وغير ذلك من الأنشطة الإنسانية، فلو كان الزمن كله على نسق واحد من ليل أو نهار ما استقامت الحياة وما استطاع الإنسان أن يميز ماضياً أو حاضراً أو مستقبلاً وبالتالي لتوقفت حركة الحياة، ولذلك يقول ربنا سبحانه في ختام الآية ” لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ” (الإسراء، آية: 12)(النجار،2007، ص423).

مراجع البحث:

علي محمَّد الصَّلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 2013م،صص40-38

ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار طيبة، الرياض،  1999

زغلول النجار، من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم(السماء) ، دار المعرفة، بيروت،2007

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى