بقلم د. الشريف حاتم العوني
عجبت من بعض أكثر العلماء الداعين للتحرر وترك التعصب ، قديما وحديثا ، كيف أصبحوا هم أول من يُتعصب له ، وصار تلامذتهم يقلدونهم بجمود لا يختلف عن جمود مقلدة المذاهب التي عاش شيخهم ومات في محاربته ، وربما أشد.
[ملحوظة : لست ضد التقليد والتمذهب ، لكني ضد الجمود والتعصب للمذهب] .
ولا أريد أن أضرب أمثلة ، فمثل هذه الحالة لا تخطئها إلا عين واقع في المشكلة !
لكن وازنوا بين تلامذة إمام كابن تيمية وتلامذة الإمام أبي حنيفة :
- ابن تيمية عاش محاربا للتقليد ، لكن صار تلامذته كأنهم مرآة لمقالاته ، حتى تكاد تجزم أن ما انفرد به ابن القيم – مثلا – هو فيه ناقل عن شيخه ، وهو أنجب أو من أنجب طلابه ، وصار من الممكن أن نكمل ما فاتنا من تقرير ابن تيمية بسبب فقدان شيء من كتبه بتقرير تلميذه ابن القيم. وهذا لا ينفي أن ابن القيم خالف شيخه في القليل ، لكن يتضح مقدار الاستلاب : أنه وافقه في عامة ما استُنكر عليه من المسائل الفقهية والفكرية : من نفي المجاز ، إلى القول بفناء النار ، إلى منع شد الرحل لغير المساجد ، إلى مسألة الطلاق …!
ويتضح مقدار الاستلاب بابن تيمية : أنه عاش محاربا لفكرة التبرك بالآثار النبوية المنفصلة عنه (صلى الله عليه وسلم) ، فما إن مات حتى ازدحم المحبون على ماء غسله يقتسمونه للتبرك به ، وازدحموا على نعشه يتبركون به ، حتى كاد يتحطم ، ويذكر ذلك تلامذته متفاخرين به !!
- وأما الإمام أبو حنيفة ، المشهور تلامذته بشدة اعتدادهم بتتلمذهم عليه : فقد خالفه منهم أشهرهم وأقومهم بمذهبه وهما أبو يوسف ومحمد بن الحسن في ثُـلُث المذهب (كما قال ابن عابدين) . وهذا ليس مبالغة ، فمن نظر في كتاب أبي يوسف (اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى) وإلى كثرة المسائل التي قال فيها أبو يوسف عن ترجيح ابن أبي ليلى : «وبه نأخذ» ، علم كثرة خلاف أبي يوسف لإمامه الذي ينتسب إلى مذهبه ويقوم بنصرته ويعتمد عليه !
وأعود وأذكر أن هذا المثال ليس هو المقصود ، لكن المقصود الظاهرة . وإلا في المعاصرين ما المثال فيهم أوضح ، ولا ينكره إلا أعمى المكابرة !
ولكني تأملت في أسباب ذلك الوضع المتناقض : كيف يتحول أتباع محارب التقليد إلى مقلدة متعصبين ؟!
فوجدت الأسباب تتلخص في خطأ تعليمي جسيم مارسه أولئك الشيوخ ، وهو : عدم اتباع الأساليب الصحيحة في التعليم ، والتي تنمي ملكة الفهم والتفقه لدى الطلاب ، وإنما انشغل الشيخ بنشر مقالاته واستدلالاته ، فتتلمذ الطلاب عليه تلقينا وحفظا ، لا يخلو من إعمال ذهن ، لكنه إعمال ذهن لا يُـكَـوِّن الملكة ، ولكنه يُـفَـهِّمُ وجه استدلال الشيخ فقط . فيتخرج الطلاب وهم يظنون أنهم يستدلون ، وهم إنما يقلدون استدلال من استدل .
وأما في العصر الحديث : فالشيخ نفسه يشكو علمه وفهمه من قصور كبير ، ومع ذلك فيتخرج الطلاب يظنون أنفسهم مجتهدين ! مع أن أعلاهم منزلة هو من تعلم من الشيخ منهجا سطحيا في الاستدلال ، فاستقل هو عنه في استعماله ، ولذلك ربما خالف اللميذُ شيخه في بعض المسائل التي توهمه بالاستقلال ، وهو إنما استقل في القليل من الجزئيات ، لكنه أسير شيخه في سطحية التعامل مع مصادر التلقي وطريقة الاستنباط وضحالة الاجتهاد .
ولذلك فعلى من أراد أن ينجو طلابه ومعظموه من هذا الداء : أن يحرص على تكوين ملكاتهم، وعلى تحصينهم من الاستلاب الفكري له .
ولذلك وسائل عديدة ، منها :
1- تكوين الملكة من خلال أسلوب التعليم الذي يقوم على أن المعلومة ليست هدية تُقدّم من الشيخ للطالب، بل هي ثمرة مجهود ذهن الطالب بحثا ودراسة وطول تأمل ومناقشة وحوار .
على ما بينت وجها من وجوهه في كتابي (تكوين ملكة التفسير) .
2- أن يشارك الشيخ طلابه عمليته الاجتهادية ، بجميع تعرجاتها ومراحلها أثناء التعليم ، مما تظهر الشيخ على حقيقته ، وأنه ما يزال يتعلم . فلا يظنه الطلاب سوبرمان العلوم ، وأنه لا يكاد يخفى عليه شيء مما يُسأل عنه .
3- أن يحث الشيخ طلابه على الأخذ عن غيره ، وأن يقرؤوا لغيره ، حتى من يخالفونه.
ألا ترى محمد بن الحسن الشيباني تلميذ الإمام أبي حنيفة كيف تتلمذ على الإمام مالك ، ثم خالفه ورد عليه ؟! وكيف تتلمذ الإمام الشافعي على فقهاء مكة وعلى الإمام مالك وعلى محمد بن الحسن الشيباني ، ثم استقل بمذهب ؟!
إن توسيع مدارك الطلاب لا يتم إلا بالأخذ من المشارب المختلفة والمدارس المتعددة .
4- أن يحذر الشيخ من تبكيت من يخالفه من طلابه وتقريب من يوافقه ، ما دام المخالف يخالف بأدب (وأهم آداب الطالب : أن يكون معترفا – بصدق وعمق – بأنه طالب يريد من الشيخ تعليمه) . حيث إن تبكيت المخالف ونهره سيكون درسا قاسيا لبقية الطلاب : أن ثمن القرب من الشيخ والاستفادة منه هو الخضوع له وعدم إعمال الذهن (الاستلاب له) .
بل لو استطاع الشيخ تقريب من يخالفه بعلم وأدب ، لكان هذا هو أفضل تدريب عملي على عدم الاستلاب له .
5- أن يسمح الشيخ لطلابه بالنقاش والحوار بحضرته ، بينه وبينهم ، وبينهم وبين بعضهم ، فلا يقطع حديث أحد منهم ، ولا يسمح بالسخرية من رأي أحدهم ، ولا يتعجل الرد .
6- أن لا يسمح بأن ينتهي حواره بالبت في كل مسألة ، بل لا بد أن يتعلم الطلاب بأن أكثر مسائل الاختلاف هي مما يسوغ فيه الاجتهاد : فقد ينفض مجلس الحوار عن أن الأقوال كلها محتملة ، وأننا لا نرجح شيئا منها ! تخيلوا أثر ذلك على الطلاب في تعظيم العلم ، وبيان عمقه ، وفي التواضع له ! وقد ينفض الحوار ونحن نظن أن أحد الأقوال هو الأرجح ، لكننا نعلم أن اجتهادنا هذا قد يتغير فيها بعد الآن ! وتخيلوا لو قرر الشيخ مع طلابه تغير اجتهادهم بعد مدة ، كم سيكون ذلك مفيدا لهم ؟!
إن هناك وسائل عديدة لكي لا يكون هادم أصنام الجمود في التقليد هادمًا أصنامًا في غيره لكنه مُصَـنِّـمٌ نفسَه ! نعم .. هناك طرق كثيرة لكي يحمي تلامذته من الاستلاب له بحجة تخليصهم من الاستلاب لغيره !
لكن هذا يحتاج إلى صلاح نية وعمق علم وتنبه إلى خطورة مناهج التعليم المؤدية إلى الاستلاب الفكري !
· حيث إن شهوة الأتباع تمنع من ذلك !
· وسطحية العلم تمنع من ذلك !
· وعدم التنبه إلى مناهج التعليم التي تؤدي إلى الاستلاب الفكري تمنع من ذلك !
(المصدر: موقع د. حاتم العوني)