لا تخلط بين العلّة والحكمة
بقلم د. عدنان بن محمد أمامه
العلة هي المعنى، الظاهر، المنضبط، التي ندرك المناسبة العقلية بينها وبين تشريع الحكم، ويكون الشارع قد علق الحكم عليها، بحيث إن وجدت العلة وجد الحكم وإن زالت زال الحكم بزوالها.
أما الحكمة: فهي المعنى المناسب للحكم، لكنّ الشارع لم يعلق الحكم عليها.
فمثلا: السفر، هو العلة التي توجد معه رخص الجمع والقصر، بحيث إذا وجد السفر عُمل بالرخصة، وإذا انقطع لم يجز الترخص، أما الحكمة من شرعية الترخيص للمسافر بالقصر والجمع، فهي: دفع المشقة المتوقع حصولها للمسافر، لكن هذه الحكمة، لا يدور معها الحكم وجودا وعدما، بل قد تنتفي كما في سفر أهل الثراء الذين يمكنهم جعل سفرهم ترفها لا مشقة فيه، ومع ذلك لا ينتفي حكم الترخص في حقهم.
ومعرفة الفرق بين العلة التي علق الشارع الحكم عليها، والحكمة التي لم يعلق الشارع الحكم عليها، ضروري جدا لطلبة العلم الشرعي، لإبطال كثير من الانحرافات الفكرية التي يروجها الجهلة من الحداثيين، والمتأثرين بهم.
فإذا قال أحد هؤلاء المفتونين: إن الزنى حرم لأجل الخوف من اختلاط الأنساب، وأصبح بإمكاننا اليوم، اجتناب هذا المحظور، عن طريق حبوب منع الحمل، أو غيرها، يقال له: إن الخوف من اختلاط الأنساب هو حكمة من حكم تحريم الزنى، وليس هو علة التحريم، ويبقى حكم تحريم الزنى على حاله، ولو لم توجد العلة، بدليل حرمة الزنى بالصغيرة، أو الكبيرة التي لا تنجب، أو العقيم، رغم الأمن من اختلاط الأنساب.
وحين يقال: إن الشرع حرم لحم الخنزير، لما يشتمل عليه من مضار صحية، وقد أمكن بالوسائل الحديثة اليوم قتل الجراثيم الموجودة في لحمه، فينبغي أن يصبح أكله حلالا، يقال لهم: من أين لكم أن علة تحريم الخنزير هي ما في لحمه من أضرار صحية؟ هذه إحدى الحكم، ولا دخل لها بعلة التحريم، ويبقى حكمه على التحريم، ولو انتفت الحكمة.
وكذلك نقول لمن يبيح صناعة الأصنام، مدعيا أن علة التحريم فيها الخوف من عبادتها، زمن النبي صلى الله عليه وسلم نتيجة انتشار الجهل، وسيطرة الخرافات والأساطير، على عقول الناس يومها، وقد زالت هذه العلة مع تقدم العلم والوعي، ولم يعد واردا عبادتها من إنسان القرن الواحد والعشرين، فيعود الحكم للإباحة، فيقال لهم: رغم ما في هذا الكلام من مغالطة وعدم مصداقية، لكنا على فرض التسليم بكلامكم: من أخبركم أن الشرع إنما حرم صناعة الأصنام خوفا من عبادتها فقط؟
وكيف عرفتم أن هذه علة مشروعية الحكم؟ إنه لم يقل بقولكم أحد، بل هي حكمة لا يدور معها الحكم وجودا ولا وعدما.
وكذا يقال لمن يحرم الموسيقى إذا كانت مهيجة للغرائز، ويبيحها إذا كانت غير مهيجة.
ولمن لا يرى حرمة النظر إلى النساء الأجنيبات ومصافحتهم والخلوة بهن، إلا عند الخوف من الافتتنان بهن.
ولمن يبطل أحكام جهاد الكفار بحجة إمكان توصيل دعوة الإسلام لهم عبر تقنيات التواصل الحديثة.
ولمن يلغي الأحكام المفرقة بين المسلم والكافر، ويدعو إلى التسوية التامة بينهم بحجة اجتماعهم في دولة المواطنة.
ومن يدعو إلى التسوية في الحقوق والواجبات بين الزوج والزوجة، والذكر والأنثى، بحجة أن المرأة باتت تنافس الرجل في كل أعماله.
وكذا يقال لكل من يخترع عللا من عنده، لكثير من الأحكام، ثم يرتب عليها تبدل أحكامها، بسبب زوال ما ظنه بعقله القاصر أنه علة الحكم في الشرع، وهو لا يعدو أن يكون جزءا من الحِكم في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى يكون من الأحكام التعبدية التي لم يطلعنا الشارع على سبب شرعيته لها، وطلب منا نحوها الإذعان والتسليم.
(المصدر: رابطة علماء المسلمين)