مقالاتمقالات مختارة

لا تؤجّل ثورة اليوم إلى الغد

لا تؤجّل ثورة اليوم إلى الغد

بقلم د. محمد فتحي الشوك

كدنا نقرّ بموتها و نستسلم لمرارة الفراق و نعوّد النّفس على أن نستأنس بغيابها و نتدرّب بمشقّة على النّسيان ،حتّى حصل ما لم يخطر على بال و وقع ما لم يكن في الحسبان ،تحرّكت بعض أطرافها و ارتعشت جفونها و استعاد قلبها بعض الخفقان.
هي مصر الحبيبة المحروسة المنصورة المختطفة الحزينة المكلومة ،أمّ الدّنيا و أمّ المظالم و الأحزان،مصر الّتي كلّما أصدروا لها شهادة وفاة إلّا و أصرّت على الحياة و كذّبت الأحكام ،فكذلك الأوطان كما الأفكار قد تمرض أو تذبل أو تغيب لفترة لكنّها لا تموت كطائر فينيق ينتفض من بين الرّماد.
فهل تنهض مصر و تنتصر على جراحها و تستعيد عافيتها و تسترجع عنفوانها لتقود قاطرة تعطّلت منذ أن أصابها الوهن و اختلّ الميزان؟
 وهل ما يزال الأمل قائما في صحوة بعد غيبوبة طالت أم ترى حصّل ما في الصّدور و فات الأوان؟
 _انتفاضة لأجل الحياة:
بين منكر و غير مصدّق و مستخفّ و مهوّن  لما يحدث و بين مهوّل ومبالغ في رفع سقف التطلّعات تبقى الحقيقة أنّ شيئا ما يحصل و في طور التشكّل و أنّ واقعا بصدد التغيّر ،مصر الّتي أعلنوا وفاتها و احتجزوا لها مكانا في ثلّاجة الموتى بل وضعوا أعضاءها للبيع في المزاد ما تزال حيّة مكذّبة ككلّ مرّة كلّ التكهّنات.
خيّل للجميع بأنّ النّظام الفاشي المصري قد أمكن له بقبضته الحديديّة من السّيطرة نهائيا على مصر ليثبّت حركتها و يكبّل أطرافها  و يقطع أنفاسها غير عابئ بأنينها و هي تهمس بصوت خافت:” لا أستطيع التنفّس” كما في مشهد جورج فلويد الّذي وجد له بواكي بعكس مصر الّتي لم تلاق سوى مشجّعين للجلّاد و راقصين يستعجلون موتها و بعضا ممّن يدّعون الإنسانية الّذين اكتفوا بعتاب ملطّف ثمّ بغضّ البصر و صمّ الأذان.
ارتخى الجسد و اعترته برودة شديدة و صار عصيّا على الاستجابة لأيّة  استثارة ،سفكت الدّماء و هتكت الأعراض وصودرت الحرّيات و كمّمت الأفواه واقترفت المظالم و قطعت الأرزاق و هدّمت منازل و مآذن و أضاعوا النّيل و سيناء و تيران وصنافير ، دون ردّة فعل في مستوى ما يرتكب من انتهاكات .
كانت حملة الاعتقالات الواسعة الّتي تلت حراك20سبتمبر 2019 و الّتي طالت أكثر من 8000 مصري تؤشّر لأن لا حراك بعده،إلى درجة أن يستهين السّيسي بمطالب المحتجّين و يستمرّ بكلّ وقاحة في بناء القصور لنفسه و السّجون للبقيّة ، بل صار يلاحق المسحوقين البسطاء في ملكيّة منازلهم باسم مكافحة العشوائيات لأجل تحقيق رغبات حرمه المصون في تجهيز قصوره بما قيمته 2.9 مليار جنيه في حين أنّه خصّص 50 مليون جنيه لتنمية كلّ الصّعيد!
مصر الّتي ارتفعت مديونيتها للخارج إلى حدود 124 مليار دولار و ارتهنت الأجيال القادمة في سلسلة من القروض تصرف في مشاريع بلا جدوى أو يلتهمها الثقب الأسود ،منهمكة في انجاز مدينة جديدة بكلفة90 مليار دولار ستكون حكرا على بعض الأنفار في حين يرزح  80 في المائة من الشعب المصري تحت خطّ الفقر في تحقّق ليتوبا أحمد خالد توفيق.
تجرّأ السيسي على مُعْطَيَيْن طالما حذّر منهما المؤرّخون و علماء الاجتماع باعتبارهما نذير خراب الأوطان و علامة سقوط الدّول و هما غياب العدل و الجباية المجحفة و لم يكن ليقدم على ذلك لولا تشتّت الدّاخل  و تشجيع الخارج.
فالسّيسي نجح في أن يتخلّص من معارضيه ليشمل ذلك حتّى من ساندوه في بداياته ليتفرّد بحكم سلطوي مطلق تفوّق فيه على “بينوشيه” الشيلي و “ماركوس” الفليبيني و” شاوسسيكو” الرّوماني و كلّ الطّغاة العرب مجتمعين!
و هو الّذي يمتدحه الرّئيس الأميركي ترامب بوصفه بدكتاتوره المفضّل و يعتبره الصّهاينة هبة السّماء إلى حدّ اعتبار صحيفة هارتس أنّ كارثة ستحلّ “بإسرائيل” إن سقط السّيسي مستحيل تداركها، في حين يقول “دان مرغليت” أحد كبار المعلّقين الصّهاينة :”سنبكي دما ان سمحنا بسقوط السّيسي”.
وسط هذا المناخ الخانق و الانسداد التّام كان خروج المحتجّين من أعماق قرى مصر و نجوعها مفاجئا و غير متوقّع  في انتفاضة غايتها الحقّ في الحياة.
 _هل تشهد مصر ثورة حقيقية؟
قد يقلّل البعض من أهمّية ما تشهده مصر من حراك أخير انطلق في 20 سبتمبر 2020 استجابة لدعوة المقاول الفنّان محمّد علي، و يصوّرون الاحتجاجات على أنّها موجة عابرة ستمرّ بدون أثر كما في السّنة الماضية و لن تشهد مصر ثورة عاصفة تطيح بالنّظام أو حتّى برأسه كما حدث في 25 يناير 2011.
فالأعداد المشاركة قليلة إلى حدّ الآن و لا ترتقي إلى  درجة الكتلة المؤثّرة ،و المحتجّون أطفال مشاغبون و شباب مهمّش و مفقّرون أصحاب جلابيب، يتحرّكون بلا قيادة و لا خطّة و بدون سند أيّ حزب و يمكن إسكاتهم و إجهاض حراكهم ببعض الكلام المعسول و قليل من التّنازلات.
نعم غابت البدلات الأنيقة و الأحذية البرّاقة و الشعر المصفّف و شفاه “البوتوكس” و صدور” السّيليكون” و أهل النّخبة و أصحاب السّياسة و الكياسة  لتعوّضها الجلابيب المعطّرة بأديم الأرض و الأيادي المخضّبة بطينها و أطفال أعيتهم الحياة قبل دخولها فنضجوا قبل الخوض في تفاصيلها.
هو حراك بلا قيادة و لا توجيه و بلا يافطات وفوق أيّة وصاية اندلعت شرارته في اطفيح بالجيزة ليعمّ كلّ المحافظة و ينتقل إلى الصّعيد  لتشهد قرى و نجوع أغلب محافظات مصر انتفاضة حقيقية  أعلنت مطالبها صراحة منذ البداية و الّتي تتلخّص أساسا في إسقاط النّظام و رحيل السّيسي باعتبارأنّ وجوده يسلبهم حقّهم في الحياة.
لا يمكن الاستهانة بعدد المشاركين نظرا للكلفة الباهضة للنّضال ضدّ أحد أبشع أنظمة الاستبداد الموجودة على سطح البسيطة، فالثمن في الغالب سلب الحرّية أو الحياة ، و أهمّية انتفاضة الأطفال و جلابيب الكرامة تكمن في أنّها انطلقت من الأطراف المهمّشة مع توسّع الرّقعة الجغرافية الّتي تشهد الاحتجاجات و تطوّر ملحوظ في أعداد المشاركين في كسر لجدار الخوف  و هو ما لا يمكن جبره.
كلّ الثورات كانت في بدايتها شرارة تطوّرت إلى كرة نار تكبر بقدر حجم الاحتقان و بكيفية تعامل المستهدفين بتلك الثورة إذ غالبا بغبائهم و استعلائهم و عنادهم  ما يسكبون الزّيت على النّار ليعجّلوا بسقوطهم و فنائهم.
استمرار الحراك و توسّعه في الرّقعة  و في العدد قد تجعلنا نأمل في أن يتحوّل إلى ثورة حقيقيّة  تعصف بنظام السّيسي الجائر و لا أظنّ عاقلا يتصوّر بأنّه بالإمكان إيجاد من هو أسوأ من السّيسي!
تقول “شينويت في دراسة لها حول أسباب نجاح الثّورات صدرت سنة 2011:” أنّ بمجرّد أن يصل عدد المشاركين في احتجاج شعبي إلى 3.5 في المائة من إجمالي عدد السكّان فان النّجاح يتحقّق لا محالة”.
إلى جانب التأكيد على ضرورة وحدة الصفّ و المطالب والاعتبار من أخطاء ثورة25 يناير 2011 المغدورة.
هي فرصة قد لا تتكرّر لمن يسعون إلى تغيير الواقع البائس فمن العبث تأجيل ثورة اليوم إلى الغد.
سئل دبلوماسي عربي سابق عن سبب وهن العرب و ضعفهم و قلّة تأثيرهم برغم كثرة دولهم و ثراء مواردهم فأجاب :”هي مصر إن مرضت أصاب الوهن الجميع”
كم نحتاج إلى مصر معافاة قويّة ممتلكة لقرارها و سيادتها لتستعيد ريادتها و قيادتها و تكون المحرّك لقاطرة توقّفت في انتظار أن يصلح ما فيه من عطب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى