بقلم ياسر الهواري – مدونات الجزيرة
في مسرحية “تاجر البندقية” الشهيرة يواجه التاجر الشريف حكما غريبا باقتطاع رطلين من لحمهِ كشرط جزائي لدَيْن لم يستطع الوفاء به، تم كتابة هذا الشرط المفزع في عقد بينه وبين المرابي اليهودي، الذي يكرهه في الأساس ويحقد عليه بشدة، ربما لنجاحهِ والأرجح لسمعة التاجر الطيبة بين الناس. لم يتوقع التاجر بالطبع أن تصل الأمور إلى أن يقف عاجزا عن الوفاء بالدَيْن، ويضطر لمواجهة الموت بهذا الحكم الغريب، بينما يُصر شيلوك (المرابي) أن يذهب إلى القاضي مطالبا بتنفيذ ما التزم به التاجر الشريف، وقد وجد ضالّته في إشباع نفسه المجرمة والانتقام من الرجل ذي السمعة الطيبة.
يقف التاجر(صديق الحاكم نفسه) بين يدي القاضي منتظرا حكم القاضي، يعلم القاضي يقينا أن ذلك المرابي يريد الانتقام من التاجر، ولكنه لا يحكم بالهوى، فقد وقّعَ التاجر على العقد دون إكراه، والقانون يُلزمه بتنفيذ ما نص عليه العقد في كل الظروف، حاكم المدينة نفسه صديق شخصي للتاجر ولا يجرؤ على التدخل والتوسط عند القاضي، دائرة مغلقة احتاج التاجر للخروج منها إلى محامٍ بارع استطاع التلاعب بطمع وشهوة انتقام المرابي حتى أوقعه في الشَرك المنصوب مُتهَما في نهاية الأمر بالشروع في القتل (بالقانون).
تخبرنا القصة، كما يخبرنا التاريخ، أن الأمم التي تحترم القانون وحدها هي من يخلدها التاريخ مع العظماء، هناك أنواع مختلفة بالطبع من هؤلاء الذين خلدهم التاريخ، آل كابوني خلده التاريخ كما سيخلد غيره من أكابر المجرمين مع أقرانه المعاصرين ممن يحكمون بالحديد والنار والظلم والفساد.
الأمم العظيمة والشخصيات العظيمة لها في التاريخ مكان خاص ينظر إليه اللاحقون بمهابة وإكبار وإجلال، بينما يُنظر إلى أكابر المجرمين باحتقار يليق بوضاعتهم، الفارق بين آل كابوني عتيد الإجرام وبين ذلك الحاكم الذي يظن نفسه ظلما وعدوانا فوق القانون والمحاسبة والمسائلة، وإن اخترق القانون إحدى وسائل تحقيق مصلحة الشعب لا يراها هو من حيث لا يراها غير المنتفعين من وجوده وما أكثرهم، أعتقد جازما أن هذا الذي لا يحترم القانون وحده الذي يسعى لإسقاط الدولة بحسب، ويا لسخرية القدر فالتعبير الدارج مؤخرا على لسان مَن يتهمون المطالبين بالحرية والمساواة وسيادة القانون من سفهاء النظام، وحده القانون واحترامه هو الفيصل بين الدولة وشريعة الغاب، حيث البقاء دائما لصاحب الأنياب القوية والمخالب المتمرسة على تقطيع اللحم.
سيقولون لكم إن الحرية شر وانفلات، وإن حقوق الإنسان رفاهية لا نملكها، وإن حرية التعبير سوء تربية وانفلات أخلاقي وتطاول على الأديان!
الدولة تمارس سيادة القانون على جميع أبنائها بحيادية (هكذا أفترض)، فإذا ما سقط القانون سقطتت الدولة وتداعت أركانها، كل ديكتاتور يحترم ديكتاتوريته زيّن أفعاله بأنها فترة مؤقتة ضرورية لإرساء قواعد النظام، وأن الحرب على الدولة (الثورة) أو غيرها من المفاهيم تتطلب مثل هذه الإجراءات الاستثنائية، ويجب على الجميع التحمل حتى يتسنى لنا الخروج من عنق الزجاجة، ثم لا تنتهي تلك الفترة المؤقتة أبدا، وتطرب آذانه عبارات المنتفعين من شاكلة “المستبد العادل”، فالدولة تحتاج إلى قبضة من حديد لحمايتها من مؤامرات الخارج “اغضب يا ريس”، فتطول الفترة الاستثنائية ما دام في صدره نفس ينبض وما زال بريق كرسي السلطة يُعمي عينيه، وما زال المطبّلون على عهدهم.
القانون وحده واحترامه الفارق الأهم والأول بين رجل الدولة ورجل العصابات، فإذا ما قرر رجل الدولة وزيّن له شيطانه التخلي عن احترام القانون والتدخل لتطويعه لصالحه، ورشوة رجالاته بمناصب وامتيازات وأموال وتسهيلات لرفاهية الحياة، أصبح بامتياز رجل عصابات عتيد الإجرام، وأصبحت الدولة في عهده غابة يبطش فيها ذو المخالب والأنياب (النفوذ والعلاقات) بمَن لا حيلة له ولا نصير.
سيقولون لكم إن الحرية شر وانفلات، وإن حقوق الإنسان رفاهية لا نملكها، وإن حرية التعبير سوء تربية وانفلات أخلاقي وتطاول على الأديان! فلا تصدقوهم، فالمقصد حماية الاستبداد والفساد والتغطية على جرائم دوائر السلطة والمنتفعين. القانون وحده هو الحد الفاصل بين الدولة واللا دولة، الفصل بين السلطات وحده هو الضامن لتنفيذ القانون (ربما نتحدث عن هذا لاحقا).
أخيرا وليس آخرا.. إن حرية التعبير وحدها ضابط الإيقاع لرصد أي انحراف في ممارسة تطبيق القانون من خلال رقابة المجتمع على مؤسسات الدولة. كان حاكم المدينة يستطيع أن يتدخل لدى القاضي لإنقاذ صديقه (تاجر البندقية)، لكنه وهو على رأس السلطة التنفيذية لم يتدخل في عمل القاضي عملا بمبدأ الفصل بين السلطات، لأنه رجل دولة وليس رئيسا لإحدى أسر المافيا، وكان القاضي يستطيع أن يحكم بهواه، ولكنه قرر احترام قيمة القانون احتراما لعمله وضميره، ولم يُعق كل هذا إنقاذ رقبة البريء وسط هذا المناخ الصالح، ولنذكر جميعا أنه لا العادل مستبد ولا المستبد عادل، فعذرا جمال الأفغاني.