كيف يهدد فيروس كورونا النظام الليبرالي العالمي؟
بقلم وناس بن نيّة
مطارات عالمية شاغرة، دول كبرى تغلق حدودها، بطولات عالمية وتظاهرات رياضية كبرى يتم الغاؤها، هستيريا استهلاكية لتخزين السلع خوفا من سيناريو كارثي.. هكذا يبدو العالم خلال الأيام الأخيرة بسبب تفشي فيروس كورونا في أكثر من 70 دولة.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، عملت الولايات المتحدة الأمريكية على التسويق للنظام الليبرالي العالمي بكل الوسائل الممكنة، من القوة الناعمة إلى الحرب الطاحنة. ويقوم هذا النظام العالمي على أسس عديدة من بينها قوة التحالفات بين الدول، والتبادلات الاقتصادية الكثيفة والأمن الغذائي العالمي والصحة العالمية. ومنذ سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار جدار برلين، لم يشهد العالم تهديدا بيولوجيا لاستقرار هذا النظام مثل الذي نشهده اليوم بسبب الأوبئة والفيروسات، ويبدو أن فيروس كورونا أصبح يمثل اليوم تهديدا حقيقيا لأسس هذا النظام بعد أن أغلقت عديد الدول مطاراتها أمام الدول الأكثر تضررا بالفيروس، ومن بينها الولايات المتحدة التي أعلنت تعليق رحلاتها لكل الدول الأوروبية باستثناء بريطانيا.
إن انتشار فيروس كورونا لديه أيضا نتائج سلبية ليس فقط على اقتصاد الدول الأكثر تضررا بسبب الفيروس، مثل فرنسا والصين، بل أيضا عديد الدول الأخرى المرتبطة بها اقتصاديا، من بينها الدول العربية. وتوقعت مجلة “ماركت وتش” أن يؤثر انتشار كورونا على معدل الإنفاق العالمي، وهو ما يؤثر بدوره على التبادلات الاقتصادية بين الدول باعتبار معدل الإنفاق هو المحرك الأساسي لهذه المبادلات، ما يعني أن الأضرار الاقتصادية هي أيضا أضرار مشتركة، مع اختلاف قدرة اقتصادات الدول على تحمل نتائج هذه الأضرار على المدى القريب والمتوسط.
صحيح، أننا ندين اليوم لهذا النظام العالمي بمشاركة المعارف والخبرات بطريقة أسرع، لكننا أيضا ندين له بمشاركة الأوبئة والأمراض بنفس السرعة. لقد ساهم النظام العالمي القائم أساسا على مفهوم “القرية الصغيرة” في انتقال الفيروس لكل سكان القرية أسرع من أي وقت مضى. إذ يكفي اليوم أن ينقل أي إنسان العدوى من بلد لآخر خلال ساعتين أو أقل أثناء انتقاله من مطار لآخر حتى ينتشر ذلك الفيروس في البلد بأكمله. في الماضي، كانت الفيروسات تنتشر بسرعة أقل لكن المجتمعات التي ينتشر فيها الوباء كانت تأخذ وقتا طويلا قبل أن تتعافى من آثارها، ما يساهم بدوره في ارتفاع عدد الضحايا بصفة كبيرة. بعد الحرب العالمية الأولى مثلا، توفي أكثر من 90 مليون شخص بسبب الإنفلونزا الإسبانية التي ظهرت في إسبانيا ثم انتشرت بعد ذلك في أغلب دول العالم مخلفة ضحايا أكثر بكثير مما خلفته الحرب العالمية الأولى.
إذا كان النظام الليبرالي الجديد قد ساهم في ربط كل مدن العالم ببعضها البعض عبر قطارات فائقة السرعة وهواتف ذكية، فإنه ساعد أيضا على توزيع الفقر والأوبئة بطريقة “متكافئة” بين كل دول العالم التي لا تمتلك نفس القدرة على معالجة هذه التحديات والمخاطر. ولذلك وجدت الهياكل والمنظمات الدولية، ومن بينها منظمة الصحة العالمية، التي تهدف لتحقيق توازن أكبر لتعزيز قدرة الدول الأكثر فقرا على مواجهة هذه التحديات بطريقة ناجعة. ولذلك يمكن القول أن النظام الليبرالي العالمي بقدر ما ساهم في مشاركة الأوبئة والأمراض بطريقة أسرع بين دول العالم، فإنه ساهم أيضا في تكريس آليات عديدة لمشاركة المعارف البشرية بطريقة أكثر نجاعة وسرعة بما يساعد على معالجة المشاكل التي يواجهها العالم. في الصين مثلا، عمل آلاف الأطباء منذ ظهور الفيروس لأول مرة على اكتشاف خصائص وسلوك الفيروس في وقت قياسي، ومشاركتها مع آلاف الباحثين في مختلف دول العالم للمساهمة في البحث عن علاج أو لقاح لهذا الفيروس.
ربما على عكس ما نعتقد تماما، قد يساهم انتشار فيروس كورونا في تعزيز النظام الليبرالي العالمي في شكل الجديد، من خلال تقليص التواصل المباشر بين البشر أكثر فأكثر. وفي المقابل، تعزيز دور التكنولوجيا في ربط البشر ببعضهم البعض وتطوير خدمات التجارة الإلكترونية. إذ من الواضح أن انتشار الأوبئة يؤثر على السلوك البشري، ما يؤثر بدوره على العادات الاستهلاكية. وبينما تشجع عديد الدول مواطنيها على البقاء في منازلهم وتقليص تواصلهم المباشر مع الآخرين، تشهد المقاهي والفضاءات التجارية الكبرى وقاعات السينما ركودا كبيرا بسبب حالة الخوف والهلع التي تنتشر في عديد دول العالم، خاصة الدول الأكثر تضررا من الفيروس. في المقابل، تعتقد مجلة “اي ماركتر” أن زيادة عدد الساعات المقضاة أمام الحاسوب أو الهاتف بسبب انتشار فيروس كورونا، يساهم في ازدهار التجارة الإلكترونية وتطوير تطبيقات توصيل الطعام.
(المصدر: مدونات الجزيرة)