كيف يفهم د. محمد عمارة مفهوم “الحاكمية” ؟
أنا أفهم شعار “الحاكمية” كما فهمه الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه)، لا كما فهمه الخوارج الذين رفعوا هذا الشعارَ زاعمين أن الحاكمية الإلهية هي البديل الذي ينفي ويَنْقُضُ حاكمية الإنسان !
لقد قال الإمام علي (يومها) : “نعم، إن الحكم لله، ولكنْ لابد للناس من امير، براً كان أو فاجراً، يَسُوسُ أمورَ الناس”. وهذا الفهم الدقيق والعميق للحاكمية يلفت نظرنا إلى ضرورة التمييز – في الإسلام- بين “المطلق” و”النسبي” ..
فالخوارج قد وقفوا عند المفهوم المطلق للحاكمية (وهو لله وحده لا شريك له)، بينما نجد العلمانيين والمتغربين في عصرنا يقفون عند المفهوم النسبي للحاكمية (حاكمية الإنسان)، مُستبعِدِين مفهومها المطلق (الذي هو الحُكم بما أنزل الله) أما المفهوم الذي أتبناه لهذا الشعار فهو الذي يجمع بين مفهومه المطلق ومفهومه النسبي، فـ : – الحُكم لله، على نحو مطلق، في الخَلْق والقضاء والتشريع، – وللإنسان حاكمية نسبية : • في إنزال حُكم الله على الواقع، • وفي الاجتهاد للمستجدات، • وفي إبداع الفقه (علم الفروع) في إطار فلسفات وكليات ومقاصد الشريعة الإسلامية، • وفي إبداع علم السياسة الشرعية فيما لا نص فيه؛ تحقيقاً للمصالح الشرعية المعتبرة، وجعلاً للتدابير السياسية أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد. فالحاكمية في الثوابت : هي لله سبحانه وتعالى، والحاكمية في الفروع والتطبيقات : هي للإنسان، وهذا هو الذي يجعل الشريعة الإلهية واحدةً ..
بينما يَرِدُ التعددُ في السياسات والاجتهادات الفقهية. وشبيهٌ بهذا الفهم للحاكمية (الذي يميز بين ما هو “مطلق” وما هو “نسبي) – الفهم الذي يؤمن بأن “العزةَ” (بمعناها المطلق) هي لله جميعاً، – مع الإيمان بأن للإنسان “عزةً نسبيةً” (إذ العزة لله ولرسوله وللمؤمنين) وبذات الفهم نميز، دون أنْ نَفْصِلَ، بين : – “القوة” (بمعناها المطلق)، فهي لله جميعاً، – مع الإيمان بأن للإنسان “قوة نسبية” تجعل المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف.
وبهذا الفهم الذي يميز، دون أنْ نَفْصِلَ، بين : – الحاكمية بمعناها المطلق (والتي هي خاصة بالذات الإلهية) – والحاكمية بمعناها النسبي (والتي هي خصيصة إنسانية) بهذا الفهم والتمييز نَخْرُجُ من الفهم المغلوط الذي وقع فيه الخوارج والعلمانيون جميعاً، وفي ذلك يقول الإمام ابن حزم [384- 456 هـ / 994- 1064م] قولة بليغةً : “إنَّ مِن حُكم الله أنْ جَعَلَ الحُكمَ لغير الله” ! ولقد فَصَّلْتُ ذلك تفصيلاً فيما كتبتهُ عن “الإسلام والسياسة”، وعن “نقد الغلو الديني واللاديني”، ونقد العلمانية في فكرنا المعاصر.
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)