مقالاتمقالات مختارة

كيف يعيد المجتمع الأكاديمي إنتاج علاقات الاستبداد؟

بقلم دينا إبراهيم علي

تكمن السلطة بداخل كل العلاقات الاجتماعية بجميع مستوياتها من الفرد إلى المجتمع إلى العالم، فلا يمكن تصور العلاقات الاجتماعية دون أن نزن علاقات السلطة بداخلها وكيف تساهم في صوغ التفاعلات بين الأفراد وتنظيم الأدوار وترتيب المسئوليات على كل منهما.

وعليه، فإن الحديث عن علاقات السلطة بداخل المجتمع الأكاديمي ليس ببعيد عن هذا السياق، لكن الاختلاف يكمن في طبيعة هذا المجتمع كون طبيعة علاقاته تصبغ بالطابع المعرفي، ومن ثم عند الحديث عن طبيعة السلطة نكون بصدد الحديث عن سلطة معرفية أو بتعبير أكثر دقة نكون بصدد تبرير الممارسات السلطوية في إطار معرفي.

وهو ما يسعى إليه ذلك المقال في محاولة لصك وتشريح مفهوم الاستبداد الأكاديمي بالإجابة على تساؤل رئيسي، وهو: كيف يعيد المجتمع الأكاديمي إنتاج علاقات الاستبداد؟ وذلك من خلال بيان أوجه ذلك الاستبداد وأدوات إنتاج تلك العلاقات.


أولا: مفهوم الاستبداد الأكاديمي: أوجه الاستبداد

عند الدفع بإلحاق الاستبداد بالأكاديميا فنحن هنا بصدد بلورة المفهوم بحسب ضرورة نقيضه للمجتمع الأكاديمي، ألا وهي الحرية الأكاديمية والتي تعد من ضرورات قيام مجتمع أكاديمي حقيقي وفعّال، بل هي القيمة العليا لهذا المجتمع قياسا على بداهة تبنّي أي مجتمع لقيمة عليا يسعى إليها.

وعليه تمثل الحرية الأكاديمية قيمة عليا تكفل الأساس الضابط والخيط الناظم لأدوار الفاعلين في هذا المجتمع وواجباتهم، كما أنها القيمة الكافلة لتعاضد وتماسك هذا المجتمع بطابعه النوعي المميز أي المعرفي، وكذلك تيسير مهامه المعرفية من نقل وطلب العلم وإنتاج المعرفة.

السلطة المعرفية

نشير هنا إلى السلطة المعرفية كأحد أوجه ممارسة الاستبداد الأكاديمي، والتي تتمثل في فرضية محورية كون من يمتلك المعرفة يمتلك مصدرا للسلطة يتمكن بموجبه من تشكيل وضبط العلاقات بداخل المجتمع الأكاديمي، وأبرزها تتبع علاقة الأستاذ والطالب، والتي يمكن التعبير عنها خلال ثلاثة أنماط تدرجية تصوغ وتؤسس طبيعة أدوار كل من الطالب والأستاذ، بدءاً من نمط العلاقة حال توافر الحرية الأكاديمية، وصولا لغيابها وحلول الاستبداد الأكاديمي بمظهره محل التفنيد هنا وهو السلطة المعرفية.

1. العلاقة التشاركية

ويعبر هذا النمط من العلاقات عن توافر الحرية الأكاديمية التي تؤسس لعلاقة تشاركية بين كل من الطالب والأستاذ خلال عملية التعلم؛ حيث يسمح للطالب بدور محوري في عملية التعلم والأنشطة المرتبطة بها كاختيار المقررات والأستاذ والقيام بكل المهام العلمية عبر صيغة تشاركية تنمي القيم المهارية لدى الطالب، والتي تهدف لتحويله في النهاية لطالب مستقل راغب في التعلم الذاتي وعلى مدى الحياة من خلال إكسابه العقلية النقدية والقدرة الذاتية على كسب المعرفة والتخيل والتعبير الحر عن الرأي والقدرة على توجيه الذات وتنمية الوعي الذاتي عن الغرض من التعلم وتقييم عملية التعلم ونواتجها، وأخذ المبادأة في تحديد احتياجاتهم من عملية التعلم والأهداف والإستراتيجيات اللازمة لذلك.

2. العلاقة المركزية

وهي التدرج الأول لغياب الحرية الأكاديمية وحلول الاستبداد الأكاديمي؛ حيث يصبح الأستاذ هو محور عملية التعلم والفاعل الرئيسي في تلك العملية ويتلاشى هنا دور الطالب واستقلاليته في التعبير عن ذاته في تلك العملية، أو بشكل أدق يلعب دورا يكاد يكون هامشيا في تلك العملية، حيث تكون حدود حركته في سياق رد فعل لما يتم تقريره مسبقا من خلال أستاذه، فيما يتعلق بالشق الإجرائي والموضوعي من عملية التعلم، كما تكون القيم المهارية المحفزة لاستقلاليته غير مدرجة كقيم مؤسسية يتبناها النظام الأكاديمي ويحفزها عبر عملية التعلم.

3. العلاقة الفوقية

هي النمط الأكثر وطأة لعلاقات الاستبداد الأكاديمي، وفيها تنحسر تماما مجال حركة الطالب في المشاركة على المستويين الإجرائي والموضوعي، بل تتحول عملية التعلم Learning إلى عملية التدريس أو التعليم Teaching، وهو ما يعني غياب دور الطالب وبروز وهيمنة دور الأستاذ كناقل وحيد للعلم وصائغ وحيد للقيم المدركة عبر عملية التدريس بشكل فوقي إلزامي من أعلى إلى أسفل.

إنتاج المعرفة

وتمثل الممارسات السلطوية المحيطة بعملية إنتاج المعرفة وجها آخر من أوجه الاستبداد الأكاديمي، وتنقسم إلى مستويين من الممارسات الأولى هي المستوى الداخلي للنظام/ المجتمع الأكاديمي، أو بين النظام الأكاديمي والنظام السياسي على المستوى الآخر.

وتتمثل الممارسات السلطوية فيما يتعلق بالإنتاج المعرفي داخل المجتمع الأكاديمي في القيود المدرجة على حرية البحث العلمي في كل المراحل الأكاديمية ووسائل إنتاجها ومن ذلك فرض إطار معين لدراسة موضوعات بعينها دون غيرها سواء على نطاق المقررات الدراسية والأنشطة المرتبطة بها أو على نطاق برامج الدراسات العليا.

يمكن كذلك النظر إلى تلك الممارسات السلطوية في ضوء التساؤل حول من يصوغ المعرفة ومن مصدرها بداخل المجتمع الأكاديمي؛ حيث قد تظهر الممارسات السلطوية في مجتمع أكاديمي يكرس صياغة معينة للأكاديميا بداخله قد تكون رؤية فردية أو جماعية، وفقا لطبيعة المجتمع الأكاديمي محل النظر وما إن كانت جامعات أم مؤسسات بحثية تكرس صياغة معينة للأكاديميا وتتبنى إنتاجها من مصدر بعينه يعزز توجهاتها دون غيره.

وتتمثل الممارسات السلطوية في إنتاج المعرفة على مستوى العلاقة بين المجتمع الأكاديمي والنظام السياسي في كونها ممارسات يخضع لها المجتمع الأكاديمي وتتشكل من خارجه؛ حيث يصوغ النظام السياسي قيم المجتمع الأكاديمي وفقا لقيمه، فيميل النظام السياسي السلطوي لتكريس النظام الأكاديمي لخدمة توجهاته فتصبح كل المؤسسات الأكاديمية أدوات لذلك النظام تعزز سياساته وممارساته، وتعزز الحقيقة التي يُصَدِّرها النظام ويحتكرها.

فيصبح مصدر المعرفة هو النظام السياسي، ويتلاشى الدور المعرفي للأكاديميا أو تصبح هي كذلك صورة من صور الاستبداد الأكاديمي، ومن صور ذلك أن يتم فرض قيود على البحث العلمي في موضوعات وقضايا قد تهدد أمن النظام وتكشف ممارساته غير المشروعة، مثل ما تردد عن مقتل الباحث الإيطالي جوليو رجيني لاهتمامه بالبحث في أوضاع النقابات العمالية وكشفه لممارسات النظام القمعية تجاه قضايا العمال والنقابات العمالية قد تهدد بقاء النظام وتثير الرأي العام إن تم إعلانها.


ثانيا: أدوات إنتاج علاقات الاستبداد

ونميز هنا في تلك الأدوات بين المستويين السابق الإشارة إليهما، وهما: أدوات ممارسة الاستبداد على مستوى المجتمع الأكاديمي الداخلي، والمستوى الثاني في العلاقة البينية بين المجتمع الأكاديمي والنظام السياسي.

المستوى الأول: أدوات إنتاج الاستبداد من داخل المجتمع الأكاديمي

اقتراب التدريس

ويمثل اقتراب التدريس الذي يتم تبنيه بداخل المجتمع الأكاديمي عصبا لتجذير وإنتاج علاقات الاستبداد بداخل المجتمع الأكاديمي، حيث من خلاله يتم تأسيس البنية النفسية ذات القابلية للاستبداد من خلال تنميط عملية التعلم ورسم العلاقة بين الطالب والأستاذ في اتجاه مماثل لعلاقات السلطة التي تتمثل في مفهومي الأمر والطاعة، وإعادة صوغ وإنتاج تلك العلاقة بين الطالب والأستاذ باستخدام طرق التدريس التلقينية والأحادية وتبنِّي اتجاه اتصالي رأسي، خلال عملية التعلم، يلعب فيه الأستاذ دورا محوريا مهيمنا على جميع الأنشطة الموضوعية والإجرائية المتصلة بالتعلم، كما سبق وأوضحنا في أنماط ممارسة السلطة المعرفية.

المحتوى التعليمي

وتبدو محورية الدور الذي يلعبه المحتوى التعليمي في تكريس الاستبداد وإنتاجه من خلال القيم التي يعززها بداخل المجتمع الأكاديمي، وما إن كانت تكفل تنمية الحرية الأكاديمية أم تقمعها، وما إن كانت تعزز المهارات النقدية القادرة على فحص وتقييم كل ما يعرض أمامها دون قبول فوري وتسليم مسبق والقدرة على التعبير الحر والمشاركة الفعالة والفهم العميق للذات وللآخر، وتعزيز قيم المواطنة والمسئولية الاجتماعية؛ حيث إن كل هذه المهارات من شأنها تعزيز الحرية الأكاديمية على وجه الخصوص، وكذلك الحرية بالمعنى الأشمل. وعلى العكس من ذلك فإن غياب تلك القيم من شأنه أن يكرس للطابع الاستبدادي بداخل المجتمع الأكاديمي.

نظام التقييم

ويعد نظام التقييم أحد أهم أدوات الضبط والسيطرة داخل المجتمع الأكاديمي ذي الطابع الاستبدادي، فهو يمثل وسيلة أكثر ردعا من القواعد القانونية كاللوائح والقوانين التي تنظم العمل بداخل تلك المؤسسات، والتي تكون في أغلب الأوقات غير مفعلة. مثال ذلك: عدم تطبيق العقوبة القانونية للسرقة العلمية بداخل الجامعات المصرية رغم النص عليها بقانون الجامعات والقيام عوضا عن ذلك بتوقيع العقوبة من خلال نظام التقييم المتمثل في التقديرات على مستوى المقررات أو الدرجة العلمية على مستوى برامج الدراسات العليا.

المستوى الثاني: أدوات إنتاج الاستبداد الأكاديمي بين المجتمع الأكاديمي والنظام السياسي

السياسة العامة للدولة

التمويل

يمكن هنا التمييز بين التمويل بوجهيه السلبي والإيجابي؛ حيث يمكن للنظام السياسي إعادة إنتاج ممارساته السلطوية لتكريس النزعة الاستبدادية بداخل المجتمع الأكاديمي بكل الأوجه المتعلقة بممارسة السلطة المعرفية أو عملية إنتاج المعرفة عبر تقليص نصيب البحث العلمي ومؤسساته من الموازنة العامة للدولة، أو عدم تقديم سياسات عامة داعمة لتلك المؤسسات، أو بفرض قيود على حرية الممارسة الأكاديمية.

ويتمثل الوجه الآخر في توجيه الموارد المالية للبرامج الأكاديمية التي تخدم النظام السياسي وتدعم توجهاته، كذلك توجيهها إلى إنشاء مؤسسات أكاديمية أو دعم أخرى قائمة لذات الغرض، وهو دعم النظام والترويج له، وأن تكون ظهيرا له.

قواعد مراعاة الآداب والنظام العام للدولة

وتعد من أبرز الأدوات التي يتم من خلالها تبرير الممارسات السلطوية لتكريس الاستبداد بداخل المجتمع الأكاديمي وبصيغة فضفاضة وغامضة، فتارة تستخدم لتقييد حرية البحث العلمي مثلما حدث في العام الماضي بالجامعة الألمانية بالقاهرة عندما تم إلغاء التعاقد مع الدكتور طارق أبوالنجا أستاذ العمارة لإشرافه على مشروعات تخرج تم القول بخروجها عن مراعاة الآداب والنظام العام، وتارة أخرى تستخدم لتقييد الحرية الشخصية لأساتذة الجامعات مثل ما حدث مؤخراً مع د. منى البرنس لنشرها صورا شخصية ومقاطع رقص لها على صفحتها الشخصية بمواقع التواصل الاجتماعي.

وعليه، فإن القول بخلاص المجتمع الأكاديمي من الممارسات السلطوية واستقلاليته عن كل علاقات السلطة لا يعني سوى الهروب من إرث جسيم من مشكلاته التي تعوقه عن إنتاج معرفي حقيقي وجاد، ولا يعني سوى التخاذل أمام مواجهة أزماته السياسية والمعرفية التي في كثير من الأحيان تكون بمثابة وجهين لعملة واحدة؛ حيث بفشله عن المواجهة لا ينجو من التورط في أن يكون أحد آليات الممارسات الاستبدادية، أو أن يكون هو ذاته صانعها ونموذجا مصغرا من مؤسسات الاستبداد التي تمارس الجهل والتجهيل، الخوف والتخويف، وأحيانا أخرى تمارس الدموية والقتل.. دموية الفكر.. وقتل منابع الحرية.

(المصدر: موقع إضاءات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى