مقالاتمقالات مختارة

كيف يتعامل “المتدينون” مع الأزمات؟

كيف يتعامل “المتدينون” مع الأزمات؟

بعيدا عن الصورة النمطية التي رسمتها السينما العالمية للأشخاص المتدينين بأنهم يغلب عليهم التعصب والتطرف، أثبتت نتائج دراسة أمريكية حديثة عكس ذلك. وبينت كيف يتعامل “المتدينون” مع الأزمات؟ وكشفت الطريقة التي يتعامل بها “المتدينون” – على اختلاف دياناتهم- مع أزماتهم، وهي طريقة تعتمد على ربط كل حدث بمشيئة الله وإرادته، مثلما تعتمد بعض المناهج التي يطبقها علماء النفس لحماية الأشخاص من  الضيق والاكتئاب والضغوط النفسية.

وللحديث عن كيف يتعامل “المتدينون” مع الأزمات؟ وعن الجدل حول قدرة المتدينين على التعامل مع الأزمات فإن الدراسة التي أعدها باحثون بجامعة إلينوي الأمريكية، ونشرتها دورية “ذا جورنال أوف ريليجن آند هيلث”، ذكرت أن الأشخاص المتدينين لديهم قدرة أكبر من غيرهم على مواجهة الضغوط النفسية وأزمات الحياة، وأنهم غالبا ما يستخدمون طرقا إيجابيةً في التفكير حينما يتعرضون للأزمات، وأن الإيجابية التي يتعاملون بها في المواقف الصعبة تشبه إستراتيجيةً يستخدمها علماء النفس تسمى “إعادة التقييم المعرفي”، وتعني أن يعيد الفرد تقييمه المعرفي للموقف بغية استخلاص الانفعال المحتمل حدوثه من ذلك الموقف وخفض أثره.

التأقلم مع الأزمات

وأوضحت الدراسة في محاولة الإجابة علاى سؤال كيف يتعامل “المتدينون” مع الأزمات؟ أن “المتدينين يميلون إلى الثقة بأنفسهم في التعامل مع ضغوط الحياة وأزماتها، ولديهم قدرة أكبر على التعامل معها بمرونة والتأقلم معها، وهو ما يخفض معدلات القلق والاكتئاب لديهم، ويجعل ذلك معدلات الرفاهية العاطفية لديهم أكبر من غيرهم، وأن المتدينين يستخدمون الطرق ذاتها التي يستخدمها علماء النفس للحماية من  الضيق والاكتئاب”.

خضع للدراسة ٢٠٣ من الشباب (بينهم 155 من الإناث) تتراوح أعمارهم بين 18 و39 عاما، ووقع جميع المشاركين من عينة البحث على موافقة خطية للمشاركة في الدراسة قبل جمع البيانات، وتم تعويض جميع المشاركين عن وقتهم، إما بمنحهم فرصًا مستقبليةً لخوض دورات تدريبية، أو بمنحهم أموالًا بلغت 10 دولارات عن كل ساعة من ساعات مشاركتهم في الدراسة.

وأجاب ٥٧ من عينة البحث عن أسئلة تخص مدى ارتباطهم بالدين والروحانيات، وطلب الباحثون من المشاركين اختيار مجموعة من الاختيارات التي تصف مواقفهم وممارساتهم؛ إذ سألهم الباحثون عن أساليب التأقلم التي يلجؤون إليها حينما يتعرضون لأزمة أو ضغط نفسي، وهل يجدون الراحة من الضيق والألم النفسي في معتقداتهم الدينية والروحية أم لا؟

كما صمم الباحثون أسئلةً لقياس مستوى الاكتئاب والقلق لدى المشاركين في الدراسة، ولمعرفة كيف يتعامل “المتدينون” مع الأزمات؟فوجدت أن الأشخاص الذين يحتمون بمعتقداتهم الدينية والروحية يستخدمون التأقلم الديني مع الأزمات، ما يمنحهم القدرة على إعادة التقييم المعرفي وكفاءة ذاتية وثقة بالنفس في التعامل مع الضغط العصبي والنفسي، وهو ما يقلل حجم التوتر والقلق لديهم، وأن التكيف الديني أو التمسك بالمعتقدات الدينية من أكثر العوامل شيوعًا في التأقلم مع الأزمات، بغض النظر عن نوع المعتقد الديني وعن نوع الأزمة والضغط النفسي.

إستراتيجيات نفسية

تكشف الدراسة عن أن الأشخاص المتدينين يلجؤون إلى استخدام أدوات يعتمد عليها علماء النفس للوقاية من القلق والاكتئاب عند مواجهة الشدائد، لتجنُّب تأثير المشاعر المؤلمة المؤثرة على مدى رفاهيتهم وجودة الحياة التي يعيشونها، وأن التحلي بالإيمان والثقة بالنفس يحد من التداعيات السيئة التي تخلِّفها الشدائد.

و في خضم البحث فك ركوز سؤال كيف يتعامل “المتدينون” مع الأزمات؟ يوضح الباحثون أن المتدينين يستخدمون إستراتيجيات تساعدهم في التكيف مع ما يواجهونه من أزمات، إذ تُعد الكفاءة الذاتية من العوامل المهمة التي تؤدي إلى خفض شعور الفرد بالتوتر والقلق، إذ تكون لديهم قدرة أكثر فاعليةً في مواجهة تحديات الحياة، كما يتمتعون بقدرة أكبر فيما يتعلق بـ”إعادة التقييم الإيجابي”، وهي إستراتيجية تكيفية تنظيمية للعاطفة تحافظ على الاستقرار العاطفي في أثناء ظروف الحياة الصعبة أو المجهدة، وتوفر الحماية من أعراض الضيق المرتبطة عادةً بالاضطرابات العاطفية، كالقلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة.

كما يتمتع المتدينون بالتعامل مع “الكفاءة الذاتية” باعتبارها جزءًا من الآليات التي توفر دورًا وقائيًّا للتكيُّف الديني ضد الضيق العاطفي، ويتمتعون بمرونة متزايدة تقلل من شعورهم بأعراض الضيق وتزيد من قدرتهم في الحفاظ على “الرفاهية العاطفية” من خلال الحد من تأثير الشدائد على “جودة الحياة”.

موت الأحباب

استشهدت الدراسة بواحدة من الأزمات التي تواجه كل البشر، والمتمثلة في “موت الأحباب”، مشيرةً إلى أن “الأشخاص المتدينين يحتمون بمعتقداتهم الدينية للتأقلم مع فكرة موت أحد أحبائهم؛ إذ يرون أن أحباءهم الذين فقدوهم بين يدي الله الآن، وهذا التكيف يمنحهم شعورًا بالأمان والدعم النفسي”.

يقول فلورين ديلوكس -أستاذ علم النفس بمعهد بيكمان للعلوم والتكنولوجيا المتقدمة التابع لجامعة إلينوي، والباحث الرئيسي في الدراسة- في تصريحات لموقع “سيانتيفيك أميريكان”: “بالنظر إلى الوجود المطلق للمعتقدات والممارسات الدينية والروحية عبر تاريخ الحضارات والثقافات الإنسانية، من الروحانية إلى التعددية والتوحيد، نجد أن أساليب التأقلم القائمة على أسس دينية ليست أمرًا مفاجئًا، وأن التكيف الديني مع الأزمات كان موجودًا منذ آلاف السنين.”

وأضاف أن الأشخاص المتدينين يستخدمون الطرق المنهجية نفسها التي يستخدمها علماء النفس للتأقلم مع الأزمات ومواجهة الضيق والقلق، خاصةً أن 84% من سكان العالم مرتبطون بديانات، وفق تقديرات دراسة أُجريت في عام 2009.

يرى الباحثون أن مواجهة الشدائد هي العامل الرئيسي الذي يؤثر على عودة الناس إلى الدين؛ إذ جرى الإبلاغ عن التكيُّف الديني باعتباره أحد أكثر أشكال التأقلم شيوعًا في أوقات الأزمات، بغض النظر عن الانتماء الديني أو الثقافي، وبغض النظر عن نوع الضغوط (على سبيل المثال، وفاة الأحباء، والتحديات الشخصية، وما إلى ذلك).

ويُقصد بـ”التكيف الديني” تمتُّع الأفراد بمستوى ديني مرتفع يمنحهم إستراتيجيات فعالة لمواجهة الضغوط النفسية، ما يحقق للفرد صحةً نفسيةً جيدةً تُشعره بالأمان.

ففي كثير من الأحيان يستخدم الأفراد تديُّنهم للتأقلم مع الشدائد ووضع مصيرهم “بين يدي الله”، والتعامل مع المواقف الصعبة في الحياة باعتبارها وسيلةً إلهيةً لتقويتهم، والتعامل مع التحديات التي يواجهونها في حياتهم باعتبارها “مشيئة الله”، ما يمنحهم شعورًا بالأمان والدعم والمثابرة في المواقف العصيبة.

وفي المقابل، يلجأ غير المتدينين إلى التعامل مع فقدان أحبائهم دون استخدام عبارات تشير إلى “تدخل إلهي”، إذ يستخدمون عبارات مثل “يكفي أنهم لا يعانون الآن على الأقل”، كما يتعاملون مع فقدان الوظيفة باستخدام عبارات مثل “سوف أتحدى فقدان وظيفتي باكتساب المهارات اللازمة للعثور على وظيفة أحلامي”، وفق الدراسة.

تحفظات مشروعة

وردًّا على سؤال كيف يتعامل “المتدينون” مع الأزمات؟ وحول ما إذا كانت هناك فروق بين أصحاب العقائد المختلفة في طريقة تعاملهم مع الأزمات، يقول “ديلوكس”: “هذه نقطة جيدة إذ قمنا بجمع بيانات حول الانتماءات الدينية، ولكن لم يكن لدينا عينات فرعية تكفي لعمل مقارنة مباشرة بين أصحاب العقائد المختلفة، وهذا شيء مهم سنضعه في اعتبارنا في المستقبل”.

وشدد “ديلوكس” على أنه ليس ضروريًّا أن يكون الشخص غير المتدين أقل قدرةً على التعامل مع الضغوط النفسية وأزمات الحياة؛ إذ يمكن للشخص غير المتدين استخدام إستراتيجيات إعادة التقييم المعرفي والتفكير الإيجابي والثقة بالقدرات الذاتية في التعامل مع الأزمات من دون استحضار العامل الديني، وفق قوله.

وعن الأسس والعوامل التي اعتمدت عليها الدراسة للحكم على شخص بأنه متدين أو لا، يقول “ديلوكس”: أجاب جميع المشاركين في الدراسة عن استبانة تتعلق بالتأقلم الديني، كما وجه الباحثون إلى عينة البحث أسئلةً مباشرة عن مستوى تدينهم.

الاعتدال هو الأساس

من جهته، يرى فتحي القناوي -أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية – أن مستوى التدين الذي تقصده الدراسة هو التدين الوسطي البعيد عن التعصب والتشدد، الذي يمنح الفرد القدرة على الاعتدال في انفعالاته وقراراته، ويزوده بالثبات الانفعالي حينما يتعرض لأزمة نفسية أو تتعلق بالحياة، على حد وصفه.

ويضيف قناوي: “الأمر يختلف من شخص إلى آخر، سواء كان متدينًا أو لا، وليس شرطًا أن يكون كل الأشخاص المتدينين لديهم القدرة على التعامل مع الأزمات بالدرجة ذاتها، والقدرة على التكيف والمرونة بالقدر ذاته.. وأنه ليس شرطًا أن يكون لدى كل أصحاب الديانات المختلفة قدرات واحدة في مواجهة الضيق والاكتئاب؛ فالأمر يعتمد إلى حدٍّ كبير على الشخص نفسه، وما إذا كان معتدلًا في ميوله أم لا”.

كما أوضح أنه على سبيل المثال، نجد أن المنتمين إلى العقيدة اليهودية يفكرون بعقولهم أكثر من قلوبهم، حتى في التعامل مع القضايا ذات الطابع الروحاني ومنها الموت.

بدوره، يرى سعيد  صادق -أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأمريكية- أن الأمر يتوقف على مدى تشدد الشخص في دينه أو لا. ويختلف ضمنيا مع ما ذهبت إليه الدراسة، مؤكدا أن “الشخص المتدين يرى أن الأرزاق والفشل والنجاح  والهزيمة وأزمات الحياة  كلها أمور مرتبطة بأقدار الله، ما قد يصيبه بالتواكل الذي تعتمد عليه شعوب الشرق الأوسط  بسبب تعليقهم لكل الأمور على القدَر، في حين أن الشخص العلماني أو الملحد يفكر بطريقة مختلفة ويسأل نفسه: لماذا فشلت؟ وماذا عليَّ أن أفعل لكي لا أفشل مرةً أخرى؟”.

يعلق “ديلوكس” قائلًا: يحظى التدين بأهمية خاصة نظرا لطبيعته متعددة الأوجه والمشاركة في خلق معنى لحياة المرء، وتوفير الموارد النفسية اللازمة لحل المشكلات، ودعم قدرة الفرد على التأقلم في أثناء أحداث الحياة المجهدة، وبصرف النظر عن السمات المتداخلة مع الجوانب الروحانية، المتضمنة الدافع إلى إيجاد معنى مقدس وتشكيل علاقة مع كائن أعلى، فإن التدين يربط بين الشخص والمجتمع؛ لارتباطه بالممارسات والموارد المنظمة لحياة المجتمع ككل.

يُذكر أن نتائج هذه الدراسة تتفق مع نتائج دراسة سبق أن أجراها باحثون في معهد ماساتشوستس بجامعة هارفارد، مؤكدةً أن “ممارسة الشعائر الدينية والروحية قد يكون لها آثار إيجابية على الصحة النفسية، وأن الأشخاص الذين يحرصون على أداء الصلوات اليومية أو الأسبوعية أو مارسوا التأمل في شبابهم كانوا أقل عرضةً للاكتئاب والقلق، وكانوا أقل عرضةً لإدمان المخدرات والتدخين، وأن الأطفال الذين يتم تربيتهم تربية دينية يؤثر ذلك بصورة إيجابية على صحتهم النفسية والعقلية والجسدية وعلى مستوى السعادة والرفاهية لديهم”. كما أفادت دراسة أخرى بأن “الاحتماء بالمعتقدات الدينية من شأنه أن يزيد من معدلات الرفاهية النفسية، وأن التأقلم الديني مع الأزمات، ومن ضمنها الأزمات الصحية، يحقق مزيدًا من السلامة النفسية”.

أسوة حسنة

ولا يمكن الحديث عن كيف يتعامل “المتدينون” مع الأزمات؟ من دون التطرف إلى الإنسان المسلم وطريقة مواجهته للأزمات، ففي الوقت الذي نجد فيه أن القرآن الكريم وضع منهاجا شاملا وكاملا لكيفة التعامل من الأزمات المحن، خاصة من خلال سرد ما تعرض له الأنبياء والرسل، تبرز سيرة رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام كنموذج يقتدى به للإنسان المسلم للتعامل مع المحن والمصائب والشدائد.

يقول الله تبارك وتعالى في سورة الأحزاب: “لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا”(21) “ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما”(22). هاتان الآيتان الكريمتان أصل كبير فى التأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم فى أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر الناس بالتأسى بالنبى صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب الذى كان موقفا عصيبا، فى صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه، عز وجل. ولهذا قال تعالى للذين تقلقوا وتضجروا وتزلزلوا واضطربوا فى أمرهم يوم الأحزاب: «لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة» أى: هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله؟ ولهذا قال: “لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا”. لقد تجلت حكمة الرسول فى هذا الموقف وأنتجت لنا قيما خالدة فى إدارة الصراع نحن فى أمس الحاجة إلى التأسى بها الآن.

وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل لنا أرضا خصبة وكتابا مفتوحا للتأمل وأخذ الأسوة فى معالجة الأمور وإدارة جميع ما يعن لنا من مصاعب وخطوب، فقد كانت له طريقة فريدة فى إدارة الأزمات وفق حكمة سديدة، فقد كان بفطنته ينهى منازع الخلاف بشكل قاطع، مع حماية المجتمع الإسلامى من آثار الأزمة، بل يعمل على الاستفادة من الموقف الناتج عن الأزمة فى الإصلاح والتطوير، واتخاذ إجراءات الوقاية لمنع تكرار الأزمة أو حدوث أزمات مشابهة لها.

(المصدر: إسلام أونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى