لا ينبغي أن نتناول القيم باعتبارها أخلاقا وآدابا موكولة إلى وعي الشخص وتربيته ونمط حياته، على أهميّة هذه المعاني، بل لا بد من النظر إليها باعتبارها معايير كليّة تقيس وعي المجتمع بذاته وحاجاته وأهدافه وطموحاته.
لو نظرنا مثلا إلى القيم العربية قبل الإسلام لوجدناها في الغالب تعبّر عن طيبة بدوية وفطرة نقية، ولكنها قبل هذا تعبّر عن حاجة مجتمعية تصل إلى حد الضرورة، فالبدو الذين لا تحكمهم دولة ولا نظام كانوا بحاجة أكيدة لنصرة ضعيفهم وإعانة فقيرهم ونجدة ملهوفهم، بل ولحماية أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، ومن هنا كانت قيم (الشجاعة والقوة والنجدة والسخاء) أشبه بالمستلزمات الضرورية لحفظ الحياة، أما الشعر فكان وسيلتهم الأقوى لتنمية كل تلك القيم ونشرها وتشجيع روح المنافسة فيها.
في العصر العبّاسي كان الاهتمام بقيمة العلم بشكل لافت واستثنائي؛ حيث ازدهرت حركة الاجتهاد والتحقيق والتدوين والترجمة وهذا كله يعبّر عن حاجة كبيرة وملحّة أيضا بعد أن أصبح العرب يقودون أكبر تجربة حضارية في التاريخ البشري.
وحينما نلتفت إلى النهضة الأوروبية التي تجاوزت عصور الظلام الموغلة في الخرافة والظلم والاحتراب الداخلي فإننا نجد مجموعة من القيم الجديدة والبعيدة عن قيم الكنيسة وحلفائها من الملوك ورجال الإقطاع قد وُلدت كلها من رحم المعاناة الطويلة والشعور بالحاجة إلى القيم التي تؤسس للحل، بمعنى أن تلك الشعوب شخّصت بالضبط حاجاتها الضرورية الملحّة وصنعت لها منظومة من المعايير الموجّهة والحاكمة مثل (العلم) و (العمل) و (الحريّة) و (المواطنة) و (المسؤولية) و (احترام الوقت).. إلخ وقد شكلت هذه القيم الرؤية المجتمعية الواحدة لصورة الإنسان والدولة والمجتمع وطبيعة الحياة التي يريدونها، ثُم جاء دور المختصّين ليضعوا البرامج والآليات والتشريعات المناسبة لتقريب تلك القيم من أرض الواقع، ويخطئ من يظنّ أن القانون أو النظام السياسي أو الطفرة الصناعية هي التي أحدثت هذا الانقلاب في الحياة الأوروبية.
نرجع الآن إلى واقعنا المعاصر ووفق تلك المعايير لنكتشف ربما أنه لا يوجد اتفاق حتى على تشخيص الحاجات والتحديات الأساسية، وهذا يعني أن الأمة غير واعية بذاتها ولا بمشكلاتها، ولذلك تجد الشباب مثلا وهم العمود الفقري في الأمة تتنازعهم قيم غريبة كثير منها يعبر عن حاجة مستمرة إلى الترفيه أو تحسين الوضع الشكلي في المجتمع ولو بالشهادات المزيّفة والمظاهر الفارغة في ظرف يتم فيه سحقهم وسحق مستقبلهم، بل ربما تكتشف أن كل هذا الذي يجري في العراق وسوريا واليمن وغيرها ومنذ سنوات لم يتمكن حتى من تشكيل الإحساس بالخطر لدى فئات ليست قليلة منهم!
ولكي لا نظلم هؤلاء الشباب فإنك لتعجب أكثر حينما تجد نقاشات (المفكرين) تقفز بعيدا عن أنهار الدم في حلب والموصل وتعز لتطرح بقوّة إشكالية (الحكم الوراثي) الذي (ابتدعه معاوية) وكيفية إقناع الأمة بضرورة تصحيح هذا الخطأ الذي مرّت عليه القرون! وقد رأيت من (المتحمّسين) من يحرّم استعانة أهل حلب أو الموصل بأردوغان مثلا لأنه (لا يحكم بما أنزل الله).
إن اضطراب القيم يعكس بالضرورة اضطراب الوعي بالذات، واضطراب الأولويات، وغياب الرؤية الجامعة لتوجهات المجتمع واهتماماته.
(العرب القطرية)