مقالاتمقالات مختارة

كيف ننتصر في معركة الوعي ؟ (الحلقة الأولى)

كيف ننتصر في معركة الوعي ؟ (الحلقة الأولى)

بقلم بشير العبيدي

سألني شاب عربيّ عمّا أعنيه بالشعار الذي أرفعه منذ أعوام؛ وسمّيته  #معركة_الوعي. وهو سؤال على بساطته يحمل دلالة عظيمة، إذ كيف ندعو النّاس أن يرافقونا في خوض معركة لا يفهمون معناها ولا دلالتها ولا رهانها ولا غايتها؟!

وما أكتبه في هذا المضمار لا أتقصّد به الإتيان على المفاهيم والمصطلحات لغرض جامعي تعليميّ أو بحثيّ، إنما غايتان هما وراء هذا التحبير، أولهما: التبسيط والتعميم – من دون إخلال – من أجل تنوير القراء الذين يبحثون عن صياغة ميسّرة لمفاهيم عصيّة على الاستيعاب، بسبب شدّة تعقيدها. وأنا أعلم أن هذه المفاهيم التي أتناولها مبسوطة بإسهاب في بطون الكتب التخصّصية، وإضافتي الوحيدة هي التبسيط والتيسير والتعميم والإيصال للناس وفق تجربتي الخاصة. وثانيهما، الإسهام في رفع مستوى التفكير، فقد دلّت التجربة، أن في مجتمع المعرفة الذي نعيشه، تسبّب تدفّق المعلومة بصبيب مدرار في قتل المعلومة ذاتها من خلال إغراقها في الكثرة المتيّهة، فكان من أثر ذلك ظهور مفارقة عجيبة غريبة، وهي مزيد انتشار الجهل والدجل والخرافة في موضع هو مظنة العلم والإتقان والسداد، وهو ما حفّزني لكتابة هذه السلسلة من المقالات.

أصل التسمية

قبل أعوام، دعاني أصدقاء مصريّون في باريس لإلقاء مداخلة حول مقولة “المؤامرة”، إن كانت حقيقة ماثلة، أم وهماً سكن العقول. فختمتُ كلامي بالقول: إنّ معركتنا الْيَوْم في أوطاننا العربية هي معركة وعي قبل كلّ شيء. فأعجب الحاضرون بهذه التسمية، وانتشرت في المواقع الاجتماعية عنوانا لجهود جميع أولئك المؤمنين بأنّ كسب رهان العلم والمعرفة والإدراك للحقائق هو ًمقدمة كلّ الانتصارات.

ما هو الوعي؟

من جهة الدلالة اللغوية، الوعي من فعل وعى، والواو والعين في دلالة اللسان العربي المبين تحيل إلى مفهوم ضمّ الشيء. ويقال : وَعَيْتُ العِلْمَ أعِيهِ وَعْياً. وجاء في سورة الحاقة: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ، لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ). وهذا دالّ على أن الوعي آلته الأساسية السماع، وبالسماع تتشكّل المعاني الذهنية.

ومن جهة البلاغة، فحرف الواو صوت مخرجه المستوى الأدنى، وهو إشمام الشفتين يتلوه صوت أوسط منفتح على الأعلى، وهذه أمارة صوتية على التوسّع والانبثاق بعد ضيق، بما يعني أن الوعي يوسّع الأفق ويعدّد الممكن.

أما من جهة الاستعمال الاصطلاحي، فكلمة الوعي من بين أعسر الكلمات على الضبط المفهومي، إذ تختلط عند “الوعي” مفاهيم “الذات” ومفاهيم “الموضوع”، فيصبح الإنسان موضوعاً لذاته وذاتاً لموضوعه في آن، مما يصعب معه ملاحقة شيء يدور حول ذاته، كمثل ذلك القطّ الذي يدور حول نفسه يحاول الإمساك بذيله !

على أنه يمكن تفكيك أهمّ أبعاد الوعي، واستيعاب المدى الدلالي بشيء من التركيز.
إنّ الوعي يحيل في تعريفه على معانٍ متداخلة في كيان الإنسان.

فمن الجانب النفسي، الوعي له صورة العلاقة المستبطنة التي يربطها الكائن البشري بمحيطه الذي يعيش فيه، وفي الزمن الذي يحياه وبذاته. وانطلاقا من هذه العلاقة المستبطنة بالذات وبالمحيط، تتفرّع أشياء تميّز الإنسان مثل المعرفة والفكر والانفعال والإحساس والتفاعلية والذوق والذاتية الخالصة. وهكذا، فكأن الوعي من هذه الزاوية ملكة حكي أنفسنا لأنفسنا بوصفنا بشر، مثل الشمعة التي تضيء نفسها بنفسها منها فيها، وكأنّ الموت هو انطفاء تلك الشمعة في ظلام دامس، وكأنّ الرّوح عالقة في ذلك النور المنبعث من الشمعة، فيفارق النور الشمعة في لمحة بصر وينتهي ذاك الكيان من الوجود الواعي، ويستحيل إلى شكل آخر من الوجود، يعتبره المؤمن برزخاً، ويعتبره غير المؤمن عدماً خالصاً.

أما من الجانب الأخلاقي، فالوعي هو تلك الملكة الإنسانية على صياغة أحكام قيمية على عمل الذات أو عمل الآخرين، للتمييز بين الحسن والقبيح والحق والباطل، وفق موازين وأقيسة قيمية مستقاة من جوهر الانتماء الروحي-القيمي للناس.

كما يوجد وجه آخر للوعي، يتعلّق بملكة التمييز أو التصنيف، ومقصود به تلك القدرة على ضبط المفاهيم ووضعها في جداول افتراضية ذهنية، كتمييز الحدود بين الذاتي والمشترك، وتمييز الملكية الخاصة والملكية العامة، وتمييز الشخصي عن العام الشائع، وتمييز المعاش عن الميعاد، وكل صور التمييز التي يتعلمها المرء من المحيط أو يكتشفها بتفعيل التأمّل والذكاء الفطري.

ويوجد بعد آخر للوعي، ولعلّه أخطر الأبعاد المذكورة على الإطلاق، وهو بُعدُ الصور التمثيلية. ولقد كتبتُ مقالات عن خطورة الصور التمثيلية، وكيفيتها تشكّل فكرة في صورة قالب في ذهن الإنسان، فتحلّ تلك الصورة التمثيلية محلّ (الحقيقة الموضوعية كما وقعت)، وتصبح ركيزة للبعد المعياري التمييزي في عقل الإنسان، يقسّم البشر على أساسها الأشياء، ويصدر وفقها الأحكام كما رأينا. وغالبا ما تتشكل هذه الصورة التمثيلية من (ذوات) الغير، مثل الكتّاب، والمشاهير، والإعلام، والأفلام، والقصص، والأمثولات الشعبية، وغيرها. وأذكر في هذا المضمار أنني كنت أناقش شابا على هامش مؤتمر، فاكتشفتُ أن كلّ ما يعرفه عن الإسلام هو أنه تأثّر جدّا بفلم “الرسالة” الشهير، فانطبعت في ذهنه صورة تمثيلية عن فجر الإسلام من خلال ذلك الفلم، ولما اكتشف جوانب أخرى تخطاها المخرج في ذلك الفلم، شعر بالصدمة، وسبب مثل هذه الصدمات هو أن الحقائق التمثيلية احتلّت في الوعي الذاتي الحقيقة الموضوعية، وحين المواجهة مع رواية أخرى للحقيقة، تقع الصدمة، ويظهر الإنكار، ويفدأ القلق، ويتسرّب الشكّ. وهذا ما يسميه القرآن الكريم “الظنّ”، ولا يغني الظنّ عن الحقّ شيئا.

من أجل ذلك، تأسّس في فلسفة المسلمين خاصة مبدأ الشكّ طريقا لليقين، وهو ما نسمِّيه الْيَوْم الفكر النقدي التفكيكي التركيبي، واقد أبدع علماء العرب والمسلمين من الراسخين في العلم من القدامى في هذا الجانب، وقلّ كثيرا في نخب زماننا، وطغى الهوى والظنّ وفسدت موازين التمييز تبعا لذلك، فكثر اللغط والشغب، حتى كاد التعلّم والتثقّف أن يصبح رديفا للخيبة والخسران في أذهان الناس.

وغنيّ عن التذكير، أنّ هذه الجوانب من الوعي تشكّل في مجملها جوهر الإنسانية، وعليها مرتكز الفكر الذي يصيغ السلوك كلّه فيما بعد.

وهذا المعنى خطير جدّا، خصوصا في مجال تربية النشء، ومجال التفاعل مع المحيط (مثل التعاطي مع الإعلام الجماهيري الموجّه وشبكة المعلومات والمواقع الاجتماعية)، وهو المحيط الذي قد يقوم بالتأثير السلبي على الدواخل لكلّ منا، ويوشك أن يصبح ضحايا هذا التأثير الخارجي كأنّهم أجهزة روبوت، مجرّد ببغاوات مستجيبة لأوامر ونواهي البرمجة الحاسوبية للمهندسين الذين صنعوا تلكم الأجهزة. وهذا ملاحظ معلوم، خصوصا عند أولئك الذين سيطرت على عقولهم قوالب الأيديلوجيا، فسجنتهم في زنازين معرفية محنطة، ومنعتهم من رؤية العالم من زواياه الثلاثمائة والستين.

وعند هذا الحدّ من التعريف، يجوز القول أن جميع الصراعات الدينية والفلسفية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية في الوجود، تلتقي في بؤرة “الوعي المشترك”، وتتصارع المصالح وتتضارب وتتحارب وتتصالح وفق الوعي المشترك الذي “تغرسه” أو “تزرعه” في الأفئدة جملة الظروف والأوضاع والخيارات والإكراهات، والوعي المشترك أعظم قوة جماعية بشرية متجاوزة للدولة وللزمن وللأفراد، إنها تلك التي تتشكّل من “الوعي بالذات”، ولا يتشكّل هذا النمط من الوعي المشترك بسهولة، فهو مثل الكواكب في مداراتها، لا تلتقي في خط واحد إلا عندما تجتمع شروط كثيرة جدا في مسارات تلكم الأجرام. والقوّة العظمى في العالم الذي ندركه اليوم تنبني بالأساس على الذكاء والنباهة في إدراك طبيعة تشكل هذا الوعي، وطريقة استثماره لجلب المنافع ودرء المفاسد، ولذلك اتجه الناس منذ فجر التاريخ إلى الالتفاف حول الفهماء والحكماء والزعماء والأنبياء، لأنهم الأقدر على معرفة اتجاه البوصلة، طمعا في تأسيس وعيهم بما يحفظ عمرانهم ويحقق استمرار بقائهم بتجنب أسباب هلاكهم.

وهذا ما يفسّر إلى حدّ ما – وفق وجهة نظري – هذا الانخرام الذي عمّ مجتمعات العرب الْيَوْم. فالسبب عندي هو أن “الوعي”، بما يحتويه من الأبعاد التي ذكرتها آنفا، لم يتشكّل في العقل العربي وفق رؤية منسجمة ومتماهية مع الطبيعة والجغرافيا والتاريخ والمصير المشترك، بل هو وعي مشوّه تمّ اغتصابه ولاعتداء عليه بما أسميه “الفاحشة المعرفية” لو جازت لي العبارة، وذلك من طرف الاستبداد والجهل في بيئة متعفّنة، التقى فيها على الناس ثالوث أشر، مشكّل من الطغاة والغلاة والغزاة، فأنتجوا “وعيا مشوّها كسيحاً”، يتعامل مع الوجود ومع الذات كتعامل ذلك المريض الذي تعرّض في صباه إلى اضطهاد مقيت، فبقي مدى حياته يرتّب كل شيء من حوله على أساس قصّته الذاتية، فيطبع كل ألوان الوجود بلونها الأسود القاتم. وهكذا تشوّه الوعي، وطال التشوّه الجانب النفسي والديني واللغوي والسياسي والاجتماعي والثقافي والنفسي، ما سبّب سبّب الانفجارات التي تتراكب فصولها في عديد المجتمعات العربية الْيَوْم، والتي لن تتوقف حتّى ينتصر الناس … في معركة الوعي. وهذا جوهر الإصلاح ولبّ الدعوات إلى الثورة الثقافية العقلانية التي يدندن حولها المدندنون، إذ لا معنى إطلاقا أن تغيّر شيئا في ذاواتنا ومن حولنا إن لم نرتّب فصول قصّتنا المشتركة لكي تتقارب مع أشواقنا !
ولله الأمر من قبل ومن بعد،

وفي الحلقة التالية، نرى – بتوفيق الله – أنواع الوعي وكيف يتشكل هذا الوعي رويدا رويدا في الذوات الفردية والجماعية. يتبع…

(المصدر: موقع تدوينات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى