مقالاتمقالات مختارة

كيف نفهم حقائق واقعنا المعاصر فهما صحيحا اليوم ؟

بقلم عبد المنعم منيب

 

هناك قصة يروى أنها حدثت فى الحرب العالمية الثانية وهى أن شخصا سرق خطط بريطانيا العظمى للدفاع عسكريا عن الجزر البريطانية ضد محاولات الغزو الألمانى لها واحتلالها، ووقتها كانت ألمانيا قد احتلت أوروبا كلها تقريبا عدا بريطانيا (بجانب احتلالها لأغلب روسيا وشمال أفريقيا) وعقد هذا الشخص صفقة مع المخابرات الألمانية كى يبيع لهم خطط وخرائط الدفاع البريطانية هذه واشترط مبلغا ضخما من المال على أن يكون بالجنيه الاسترلينى وحينها رد عليه ضابط المخابرات الألمانى: نحن نحتل معظم دول العالم الآن ولم يبق أرضا مهمة خارج سيطرتنا سوى بريطانيا وأنت تسلمنا كل أسرار الدفاع عنها أى أن نصرنا مؤكد فلما تشترط أن تتسلم الثمن بالجنيه الاسترلينى، فالمارك الألمانى أنفع لك؟؟ فرد عليه الجاسوس قائلا: أنا أبيع لكم المعلومات ولكن لا أملك بيع العقل المناسب وطريقة التفكير المناسبة للتعامل مع هذه المعلومات. وبالفعل انهزم الألمان وصار المارك الألمانى لا قيمة له بينما انتفع مالكو الجنيه الاسترلينى بملكيتهم لأن بريطانيا انتصرت. أتذكر هذه القصة كلما شاهدت شخصا قرأ أو يقرأ الكثير من الكتب ويراكم الكثير من المعلومات بعقله وورقه بينما لا يفهمها بشكل صحيح فلا يستفيد بها حقيقة، وهذا القصور فى الفهم أدى إلى تخبط أتباع هؤلاء الأشخاص ويؤدى لكثرة الخلاف بين المسلمين لأن هناك طوائف شتى من المسلمين اتخذت كل طائفة منهم إماما لها ممن راكم المعلومات دون أن يحسن فهمها، ذلك أن أهل العلم والفهم يقل خلافهم كما أن اختلافهم يكون قائما على أسس علمية تيسر عملية الحوار والتفاهم بينهم وتلتزم بالأحكام الصحيحة الإسلامية لإدارة مثل هذا الخلاف (على سبيل المثال لا الحصر ما كان بين الشافعى ومخالفيه من علماء الأحناف وغيرهم). والعلوم الاجتماعية هى أهم محاور الخلاف المعاصر بين المسلمين بعد العلوم الإسلامية الشرعية، وهذه العلوم أيضا الحال فيها يشبه العلوم الشرعية من حيث أن العلماء فيها يسهل الحوار والتفاهم بينهم مهما اختلفوا ويقل خلافهم بقدر عمق ورسوخ علمهم فى مجالهم (كمثل الحال فى العلوم الشرعية)، وقد كتبت سابقا عن تجربة لى فى هذا المجال حيث حضرت بعام 2012 مؤتمرا علميا عن الربيع العربى نظمته كلية السياسة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة والمعهد السويسرى للعلوم السياسية فى جنيف، وحضره علماء وباحثون من جامعات ومراكز بحوث أوروبية وأمريكية وعربية فلاحظت فى الشأن المصرى أن أستاذا وأستاذة مصريان يتفقان فى رؤيتهما للأوضاع فى مصر رغم أن أحدهما يسارى والأخرى ليبرالية فى منطلقهما المنهجى والأعجب أن رؤيتهما الواحدة هذه اتفقت مع رؤيتى رغم إسلامية منهجى العلمى، فالعلم والفهم الصحيح يقلل الخلافات لأبعد مدى، ولذلك تقبل المسلمون مقولة ابن تيمية أن الخلاف سببه الجهل أو الظلم، فالجهل هو ما أشرنا له هنا من أنه عدم امتلاك الأدوات الصحيحة للفهم الصحيح للمعلومات واستخدامها، والظلم يقصد به الهوى حيث نلوى عنق النصوص والمعلومات لتدل على ما تريده أنفسنا وميولنا الشخصى الراجع لرغبات نفسية وليس أسس علمية. فما الحل فى واقعنا المعاصر لمشكلة عدم الفهم أو سوء الفهم؟ الحل هو ما أشرنا له كثيرا فى مقالات متعددة لنا وهو أنه ينبغى لعوام المسلمين ألا يأتموا بغير أهل العلم سواء فى العلوم الشرعية أو العلوم الاجتماعية والإنسانية (كالسياسة والاقتصاد والتاريخ والجغرافيا والإدارة والإستراتيجية والأمن وعلم النفس وعلم الاجتماع). فما هو مفهوم أهل العلم؟ ولماذا لا نعتبر من قرأ كتبا كثيرة وجمع معلومات كثيرة من أهل العلم؟ أهل العلم و حاملو المعلومات العلمية دون فهم كافى لها أو دون فهم كافى لكيفية توظيف هذه المعلومات مذكوران فى الحديث النبوى الصحيح: قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إن مَثَلُ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غيث أَصَابَ أَرْضًا فَكَانت مِنْهَا طائفةٌ طيبة قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ الله بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا منها وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ طَائِفَةً منها أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلًَا فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ الله وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى الله الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» (رواه البخارى ومسلم)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم «فَكَانت مِنْهَا طائفةٌ طيبة قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ» يشير لأهل الفقه والفهم الذين يستنبطون الأحكام ويفتون الناس فى النوازل أما قوله صلى الله عليه وآله وسلم «وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ الله بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا منها وَسَقَوْا وَزَرَعُوا» فيشير إلى حملة العلم أو جامعى المعلومات الذين لا يجيدون أدوات الفهم فهم يبلغون ما يحملونه من معلومات بأمانة دون زيادة أو نقص، ويوضح هذا أكثر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «نَضَّرَ الله امْرَءًا سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا، فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِع» (رواه الترمذى وصححه ورواه ابن ماجه وصححه الألبانى)، فالأوعى من السامع هو الفقيه أو من لديه أدوات الفهم أما الذى سمع فبلغ ما سمعه فهذا من يجمع العلم أو المعلومات دون امتلاكه لملكة وأدوات فهم المعلومات أو توظيفها، ونحو هذا أيضا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه» (رواه الترمذى قال حديث حسن وصححه الألبانى)، وهذه الأحاديث تنبه على وجوب أن يعرف المرء قدر نفسه فإذا جمع معلومات ولم يأنس من نفسه فهما كافيا لدلالاتها وكيفية توظيفها فعليه أن يقنع بوظيفة التبليغ بأمانة ولا ينصب نفسه مرشدا علميا لمجرد حفظه للعلم دون امتلاك أدوات وملكة الفهم. ونأتى هنا لأهم وآخر فكرة فى هذا المقال وهى: كيف نحوز ملكة وأدوات الفهم فى مجال علم ما؟؟ لابد أولا من التخصص فى ” علم ما ” ثم لابد من التعمق في هذا العلم المراد التخصص فيه بقدر وبأسلوب يكسبك ملكة التفكير العلمى الموضوعى فى هذا العلم وفق المنهجية العلمية المتبعة لدى علماء هذا العلم (فمثلا منهجية علم الفقه هى أصول الفقه وعلوم الحديث بقدر ما والقواعد الفقهية وهكذا لكل علم منهجية محددة فى البحث والتفكير ويطلق عليها فى العلوم الاجتماعية والإنسانية مناهج البحث) و لا يكفى أن تقرأ هذه الموضوعات وحدك بل ينبغى أن تتدرب عليها على أيدى علماء مشهود لهم علميا بالتخصص فى هذا العلم المراد، فكما أن البحث فى الفقه يحتاج تدريبا عمليا على يد متخصصين فكذلك كل علم من العلوم الاجتماعية يحتاج أن تتدرب على يد متخصصين على البحث فيه وتطبيق منهجيته فى البحث والتفكير وحيازة ملكة التفكير فيه عبر هؤلاء المتخصصين بالبحث معهم ومناقشتهم والمدارسة العلمية معهم حتى يشهدوا لك بأنك صرت ذا ملكة فهم وبحث فى هذا العلم ومتقنا لأدوات ومناهج البحث فيه لأنك ممكن تكد وتتعب ثم لا يفتح الله عليك باب الفهم فيه كما هو مروى عن الغزالى قوله أنه صعبت عليه دراسة علم النحو ولم يُفتح عليه فيه فتركه. ومناهج البحث هذه تعادل تعبير “الدليل” فى المقولة المشهورة عن سلفنا الصالح “لولا الدليل لقال من شاء ما شاء” فأيضا لولا المنهجية فى العلوم الاجتماعية لقال من شاء ما شاء، وللأسف هذا ما هو حادث بين المسلمين اليوم فامتلأ مجالنا العام بآراء لا يحكمها دليل ولا منهجية علمية معروفة ومقبولة لدى أهل العلم. وملاك ذلك كله من البداية إلى النهاية هو الصدق فى طلب ما عند الله والإخلاص لوجه الله تعالى فلو وفقنا الله للصدق والإخلاص لزالت أغلب المشاكل ولقل خلافنا ولقل المتصدرون للإرشاد والإفتاء دون تأهل كافى سواء فى مجال العلوم الشرعية أو الاجتماعية ولما وقعنا فى الوهدة العميقة التى تتخبط فيها أمتنا منذ مائتى عام وحتى الآن، ولعل خير ما يدفعنا لهذا الصدق والخلاص قوله صلى الله عليه وآله وسلم «إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة، رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فماذا عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال: جرئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار» . ( رواه مسلم وأحمد وغيرهما).

(المصدر: طريق الإسلام)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى