مقالاتمقالات مختارة

كيف نفهم ابن تيمية؟

كيف نفهم ابن تيمية؟

بقلم ناصر جبر النعيمي

يُروى في تراثنا أن عالمًا سُئل عن مصدر الحق والهدى حين اختلاف الآراء، فقال: “لتُبصرْ سهام العدو واعرف إلى أين تتجه”. وأقول: إذا رأيت الإعلام الموجَّه يتهم شخصية أو مفكرا بالخيانة والسطحية والتكفير؛ فاعلم -علم اليقين- أنه أشد خلق الله أمانة وعمقا وسماحة.

ذاك ما نراه بين فينة وأخرى من ظهور أصوات هنا وهناك تندد بأحد أفراد الزمان، ألا وهو أحمد بن عبد الحليم الحراني المعروف بابن تيمية، ولن تعدم في كل عام مرة أو مرتين من يقوم بمهاجمته وإلصاق شنائع الإرهاب به ورميه بالتشدد، ليس من علماء مختصين بل من إعلاميين لهم في إسقاط ابن تيمية مآرب أخرى.

وإذ رأوا أن الرجل أحد أهم أعلام التراث؛ كانت أولى خطواتهم في إسقاط التراث بالكلية أن يُنكَّس هذا العَلَم، ليس لاستبداله بأحد رموز الصوفية أو الأشاعرة من المتكلمين، وإنما دعما لمشروع مناوئ للإسلاميين بكل تياراتهم، يتسم تراث ابن تيمية بالشمولية والعمق والتخصصية في بعض أطروحاته، فتراثه الفقهي واسع وكُتبت حول فقهه فقط عشرات الدراسات، ناهيك عن آرائه في التفسير والحديث واللغة وأصول الفقه والعقيدة والفلسفة والمنطق، فقد كان له القِدْحُ المُعلَّى في العلمين الأخيرين وله نقد علمي موضوعي للمنطق الأرسطي، وتحليل عميق لآراء الفلاسفة المشائين كابن سينا، ومشروع ضخم وفق فيه بين العقل والوحي.

https://youtu.be/fHGjdcrfdEU

ولعل الأهم الآن من كل هذه الأمور هو أن نستعرض جانبين مهمين من فكر الشيخ، وهما: بعد الشيخ عن تكفير المسلمين واحترازه منه، وطريقة تعامله مع مخالفيه من صوفية وأشاعرة وكيف عالج الخصومة الفكرية معهم، سدّ ابن تيمية بابًا كبيرًا من أبواب قتل الأبرياء واستحلال الدماء حين قرر أن العذر بالجهل وبالتأويل يمنع من تكفير صاحبه. وحاصل كلامه أن كل من اجتهد وحاول الوصول إلى الحق فإن الإثم مرفوع عنه إن كان صادقا (وما دام الحكم على الظاهر فلا استثناء)؛ وهذا عنده يشمل الخطأ في أصول الدين وفروعه.

أما فروع الدين فأمرها واضح، وأما العذر في أصول الدين فإنه استند إلى حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل الذي أوصى بأن يُحرق جثمانه بعد موته، لأن الله لو قدر عليه لعذبه أشد العذاب، فما كان إلا أن غفر الله له برحمته وفضله، يقول ابن تيمية: “فهذا الرجل اعتقد أن الله لا يقدر على جمعه -إذا فُعِل ذلك (= إحراق جثته)- أو شك، وأنه لا يبعثه. وكلٌّ من هذين الاعتقادين كفرٌ يكفِّر من قامت عليه الحجة، لكنه كان يجهل ذلك، ولم يبلغه العلم بما يرُدّه عن جهله، وكان عنده إيمان بالله وبأمره ونهيه ووعده ووعيده، فخاف من عقابه، فغفر الله له بخشيته.

فمن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد -من أهل الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر والعمل الصالح- لم يكن أسوأ حالا من هذا الرجل، فيغفر الله خطأه، أو يعذبه إن كان منه تفريط في اتباع الحق على قدر دينه. وأما تكفير شخص عُلم إيمانه بمجرد الغلط في ذلك فعظيم”؛ (كتاب الاستقامة، ابن تيمية، ج١، ص165، تحقيق رشاد سالم). ويعود ابن تيمية -في مكان آخر- فيؤكد هذه القاعدة بقوله: “ما ثبت قبحه من البدع -وغير البدع من المنهي عنه في الكتاب والسنة أو المخالف للكتاب والسنة- إذا صدر عن شخص من الأشخاص فقد يكون على وجه يُعذر فيه؛ إما لاجتهاد أو تقليد يعذر فيه، وإما لعدم قدرته”؛ (مجموع الفتاوى، ابن تيمية، ج10، ص372، تحقيق عبد الرحمن القاسم).

     

وهذه القاعدة من اتبعها لا يمكن أن يحكم على من هبّ ودبّ بالتكفير فضلا عن أن يقتل أناسا لا يدرون فيمَ قُتلوا ولماذا؟ ومن شواهد هذه القواعد في حياته العملية أنه مع كثرة جدله وخصومه لم يُعلم عنه أنه كفر عالمًا واحدًا، وهذا ما يُعرف بالعذر بالتأويل، بمعنى أن من بلغه الوحي ولكن فهِمه بطريقة خاصة واقتنع بها صادقا في اعتقاده فإنه أيضًا يُعذر في رأيه الذي اختاره.

لا يخفى أن حياة الشيخ اتسمت بالصعوبات بسبب الوشايات به إلى السلطان وتحريض العامة عليه إلى أن ضُرب وأهين وهو صاحب المقام العالي، ولكنه رغم كل ما حصل له كان شريف النفس وارتفع عن الخصومة، ولا يخفى موقفه حين أراد السلطان أن يتخلص من بعض القضاة بسجنهم فنهاه ابن تيمية وقال له: إنك لا تجد أفضل منهم وأصلح للناس. ولما علم بهذه الكلمة القاضي ابن مخلوف المالكي -الذي أفتى بقتل ابن تيمية- قال: لم نر أتقى من ابن تيمية! حين قدر علينا عفا عنا.

من الملاحظ على الشيخ حدّة أسلوبه في بعض كتبه، ولكن هذه رَدّة فعل طبيعية لمن هوجم وضُرب وأفتِي بتكفيره وإهدار دمه، وكان يتردد من السجن إلى القاضي ومن القاضي إلى السجن حتى وهو في شيبته؛ فمن الإجحاف أن ننظر بعين إلى جانب ونغفل جوانب مشرقة كثيرة، وإذا كان هذا الرجل لم يعرف قدره كثير من المسلمين العرب فقد عرفه الشرق والغرب، يقول د. جون هوفر -وله أكثر من دراسة في ابن تيمية- في لقاء له عندما سأله المذيع: هل نستطيع أن نقول إن ابن تيمية مثل توما الإكويني عند المسيحيين؟ فأجاب هوفر: “ربما يكون أكثر أهمية، أنت تجد في كل مكتبة عربية كتابا لابن تيمية ولتلميذه ابن قيم الجوزية، بينما لا تجد هذا في حالة توما الإكويني”.

هذه لمحة موجزة عن ابن تيمية وعن مدى تحرزه من التكفير وسعيه لوحدة المسلمين. وانظر إلى هذا الرجل صاحب التراث العلمي الفريد -ابتداء من “الرد على المنطقيين” و”موافقة صريح المنقول لصحيح المعقول” و”توحيد الفلاسفة”- كيف يراد أن يُختزل ويُجعل المثل الأعلى لقوم سُذّج وقعوا في هاوية التطرف، وللأسف أنك ترى استعراض شخصيات متوترة وقلقة من طائفة معينة من الصوفية كمحيي الدين ابن عربي وأبي منصور الحلاج، وفي نفس الوقت ترى الهجوم على شخصيات محورية لها تأثيرها في تاريخ الإسلام كابن تيمية وبالأمس صلاح الدين والغزالي، حتى يقضي هذا الإعلام الموجَّه على رموز مفكري الإسلام كلهم، ويصير الفكر الديني عرضة لتفسير كل شرقي وغربي من عرب وعجم، ولو أن النقد كان من علماء لكان النظير في مقابلة نظيره واعتُبِر جدالا من أبناء البيت الواحد، ولكن الأمر كما تعلمون أيها الكرام.

إذا عير الطائيَّ بالبخل مادرٌ ** وعيَّر قِسًّا بالفهاهة باقلُ
وقال السُّها للشمس: أنت خفية ** وقال الدجى: يا صبحُ لونُك حائلُ
وطاولتِ الأرضُ السماءَ سفاهةً ** وفاخرت الشهبَ الحصى والجنادلُ
فيا موتُ زُرْ إن الحياةَ ذميمةٌ ** ويا نفسُ جِدِّي إنّ دهرَكِ هازلُ

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى