مقالاتمقالات مختارة

كيف نشعُر بإعجاز القرآن؟

كيف نشعُر بإعجاز القرآن؟

 

بقلم شريف محمد جابر

 

كثيرا ما يشكو بعض المسلمين من عدم شعورهم بإعجاز القرآن، تلك القضية المركزية التي بدأ التنظير لها مبكّرا في التاريخ الإسلامي، والتي شغلت العلماء والباحثين منذ قرون طويلة، فتركوا فيها مؤلّفات عديدة، وتطوّرت أطروحاتُ الإعجاز حتى صرنا نسمع بشيء اسمه “الإعجاز العلمي” و”الإعجاز العددي”. بيد أنّ هذه الأبحاث النظرية لم تشبع شغف الكثيرين ممن راموا “الشعور” بإعجاز القرآن على الحقيقة، فلم تشبعهم المقولة الرئيسية التي تمركزت حول مفهوم “التحدّي” (مع التحفّظ على اللفظ)، والتي جاء ذكرها في كتاب الله عزّ وجلّ، إذ لم يستطع العرب الإتيان بمثل القرآن ولا بعَشر سور من مثله ولا بسورة. وإزاء هذا المفهوم يطرح بعض المتعطّشين إشكالية عدم ملامسة هذا المفهوم لعقولهم وقلوبهم، وأنّهم لا يمتلكون الأدوات القادرة على كشف هذا العجز الحقيقي عن الإتيان بسورة واحدة مثل القرآن؛ وذلك لضعف بضاعتهم بالعربية ودنوّ منزلتهم بدرجات هائلة عمّا كان عليه فصحاء العرب في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أولئك القوم الذين أدركوا جيّدا عجزهم – مع بلاغتهم الفائقة – عن الإتيان بكلام مثل القرآن.

إنّ هذا الواقع يستدعي منّا محاولة وضع اليد على ما يمكّن الصادق في طلب الحقيقة من الشعور حقّا بأنّ هذا الكتاب هو كلام الله خالق كلّ شيء. ومن ثمّ أقترح أولا الخروج من قالب فكرة “الإعجاز” بمفهومه التقليدي، وهو: إثبات عجز البشر عن الإتيان بمثله، واستهداف مفهوم أكثر اتّساعا يرتكز على الوصول إلى القناعة العقلية والاطمئنان القلبي بأنّ هذا القرآن هو كلام الله الخالق وليس كلام بشر. ولقد صار هذا المفهوم هو المقصود أحيانا حين يطرح عنوان “إعجاز القرآن”، ولهذا أبقيتُ على استخدام هذا المصطلح التراثي المهم في عنوان التدوينة.

سأشير في هذه التدوينة إلى مرتكزات أساسية يمكنها مساعدة طالب الحقّ كثيرا في الشعور بإعجاز القرآن بمفهوم الواسع هذا، سواء كان مسلما أو غير مسلم، لكن من المهم التأكيد على أن يكون المخاطَبُ طالبَ حقّ صادقًا في طلبه للحق، فأي خطاب يستهدف بيان ملامح الإعجاز في كتاب الله لن ينفع مع القلوب المعاندة الجاحدة. لا بدّ من استقبال النصّ القرآني بقلبٍ صادقٍ تخلّص من أي ظنون مسبقة وقوالب نمطية حتى يفعل القرآن فعله العجيب في النفوس، وحتى يشعر الإنسان بخشوع قلبه حين يتلقّى كلام خالقه، فهذا القرآن كلام الله، وهذه الفطرة من خلق الله، وأفضل طريقة للشعور بإعجاز القرآن هي أن يفتح الإنسان قلبَه لمواعظ القرآن ولطائفه وآياته ومشاهده، فلا يمكن لقلبٍ تجرّد للحق والصدق والعدل ألا يخشع ويهتزّ ويُنيب إذا خوطبَ بكلام خالقه ومقلّبه! إنّ أول خطوة ينبغي اتخاذها للشعور بإعجاز القرآن هي الخروج من فكرة طرح “دليل مُلزم” على الاعتقاد بأنّ القرآن كلام الله بالمفهوم الفلسفي أو الكلامي للدليل، والدخول إلى مفهوم أكثر رحابة وواقعية ورسالية وهو بيان دلائل الإيمان بالقرآن وتقريبها من الصادقين في معرفة الحقّ وطلبه.

في مسائل الإيمان، فالمطلوب ليس مجرد الاقتناع العقلي البارد بصحة أدلتنا ولا إفحام الخصم فحسب، بل المطلوب الأهم هو مساعدة المحاوِر أو الباحث عن الحقّ في وضع عقله وقلبه على طريق الشعور بدلائل الإيمان في آيات الله والاطمئنان إليها بعد الاقتناع بها عقلا. أن نساعده في إيصال حقائق التوحيد الجليّة في كتاب الله إلى فطرته التي خلقه عليها حتى يعود عبدًا لله كما خلقه عبدًا. وكل حجاج فلسفي كلامي لا يستحضر البُعد الرسالي وطبيعة الإنسان ودور الأهواء في الإعراض عن كل برهان سيكون حجاجا ناقصًا. كل حجاجٍ هذا حاله مهما بدا قويا وحاسمًا ومُلزما إذا واجه خصما معاندا سيظلّ الخصم فيه يدعي أنه لم يقتنع، وسيظلّ يطرح الشبهات التي يظنّها أدلة معتبرة في حسّه!

في المقابل، عندما يؤمن الكثيرون من غير المسلمين لأنّهم سمعوا آيات قليلة من القرآن أو لأنّ الإيمان وقر بقلوبهم حين قرأوا القرآن وفهموا معانيه، هكذا بهذه البساطة وبغير أدلة كلامية وفلسفية؛ فإنّهم لم يؤمنوا بغير دليل، ولم يتّبعوا مشاعرهم، بل هؤلاء في الحقيقة واجهوا حقائق القرآن وأدلته وبراهينه وخطاب الله فيه بقلوب عارية عن الأهواء، صادقة في طلب الحقّ. لقد لمسوا بعقولهم وفطرهم حقائق التوحيد واتساقها ومنطقيتها، واطلعوا على محاسن دين الإسلام وعدالة شريعته. لقد عصفت بهم هذه الأدلة العقلية ودفعتهم إلى الإقرار بالله والإيمان بكلامه والانقياد لشريعته، كما يندفع المحبّ إلى حبيبه بعد طول الغياب، وهل يُقال لمن وجد نفسه بعد طول الضياع أثبت لنا بالدليل العقلي أنّك وجدتها وإلا كان وجدانك لها باطلا؟! أي مجنون سيصغي إلى هذا الخطاب؟!

وهؤلاء حتى لو لم يطلعوا يوما على أدلة المتكلّمين ولا جادلهم أحدٌ يومًا ببراهين “حاسمة” و”مُلزمة” في نظره، فقد صاروا في غنى عن مجادلات الآدميين حين وجدوا الله أخيرا واطمأنّتْ عقولهم وقلوبهم إلى كلامه! لقد اطلعوا على أجلى الآيات وأوضح الأدلة وأحسن الكلام حين قرأوا كتاب الله بقلوب صادقة خالية من التعصّب للموروث أو للأفكار الشخصية، تطلب الحقّ حيثما كان، وكيف يمكن لمن فتح عقله وقلبه للقرآن بهذا التوجّه ألا يؤمن بالقرآن؟ ومع ذلك، وحتى نقدّم بعض المسالك العملية للشعور بإعجاز القرآن؛ سنتناول في هذه التدوينة بعض الجوانب الأساسية التي يمكنها أن تساعد أولئك الباحثين عن بيّنات القرآن وبراهينه الدالة على أنّه كتاب الله الخالق.

التوحيد: الحقيقة الأولى في القرآن وآيته الكبرى

يقول الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. لا بدّ لنا من الإشارة إلى تجربة مهمّة ذكرها القرآن عن إيمان بعض المخاطَبين به عند سماعه، هذه التجربة تؤكّد أنّ المحور الأساسي الدافع للإيمان بالقرآن هو حقيقة التوحيد، تلك الحقيقة الخالدة التي لا يمكن للفِطَر السليمة أن ترفضها، فهي حقيقة مقنعة للعقل ومطمئنة للفؤاد. تلك التجربة هي تجربة أولئك النّفر من الجنّ الذين حكى الله عزّ وجلّ خبَرهم فقال عزّ شأنه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}. لقد استمع هؤلاء النفر إلى كتاب ربّهم فوجدوه يدعو إلى الرشد، ومن ثمّ كانت الاستجابة الفورية {ولن نُشرك بربّنا أحدًا}!

لقد اجتاحتْ قلوبَهم تلك الحقيقة الأولى في كتاب الله، حقيقة التوحيد وفهموا أنّها غاية “الرشد”، فالقرآن هو الكتاب الوحيد الذي يعرّف بإله واحد أحد، منزّه عن كل عيب، تليق صفاته في كتاب الله بالإله الذي خلق كلّ شيء، والذي عرفه العقلاء بالعقل. إنّه ذلك الإله الذي عرفه من نظر في الكون ونظر في نفسه، بل إنّ القرآن يؤكّد لهم ذلك فيقول الله لهم: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، ويقول لهم: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ *وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}. إنّه هو الإله نفسه الذي عرفوه حين نظروا في الأنفس والآفاق يتجلّى بأسمائه وصفاته وأفعاله في هذا الكتاب الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلّم، ففي هذا الكتاب تبدو حقائق التوحيد متّسقة غاية الاتّساق، لا يشوبها عيبٌ أو نقص، والخالق الحكيم الذي عرفوه من خلال النظر في الكون والأنفس، هو الخالق الحكيم الذي طالعوا صفاته وأفعاله في القرآن! وسيجد القارئ في هذا الباب بعض الكتب التي يمكنها أن تعينه على تصفّح حقيقة التوحيد كما تبدو في كتاب الله، ومقارنتها بالتوحيد الذي عرضته مختلف المذاهب الأرضية والأديان المحرّفة. ومن خير ما أنصح به في هذا الباب كتابَي الأستاذ سيد قطب رحمه الله “خصائص التصوّر الإسلامي”، و”مقومات التصوّر الإسلامي”.

في “خصائص التصوّر الإسلامي” يذكر الأستاذ سيّد بعض اللمحات عن التيه والركام الذي عجّت به البشرية في المذاهب والفلسفات والأديان التي سبقت نزول القرآن والتي تلتْ نزوله، ثم يطرح خصائص هذا الدين، ومن بينها خصيصة التوحيد. ثم يبسُطُ في “مقومات التصور الإسلامي” حقيقة التوحيد كما جاءت في كتاب الله، ويبيّن حقيقة “الألوهية” و”العبودية” كما تبدو في كتاب الله. وميزة كتابه هذا أنه يبذل قصارى جهده في أن يجعل القارئ يعيش مع آيات الله ومع حقائق التوحيد فيها بأقل قدر من التدخّل منه. ومع قراءة هذا الكتاب ستطّلع القلوب المرهفة على عظمة هذه الحقيقة، والتي ربّما كانت تبدو في حسّها غير ذات أهمية كبيرة في مضمار البحث عن إعجاز القرآن. ولكن جرّبوا ذلك، جرّبوا أن تدرسوا حقيقة التوحيد كما يعرضها كتاب الله، ستجدونها الحقيقة الكافية الشافية.

الفطرَ السليمة التي أتعبها العيش بغير منظومة أخلاقية، أو التي جرّبت منظومات معوجّة سقيمة، ستجد في كتاب الله غناء لقلوبها المرهقة

منظومة القرآن الأخلاقية والقيمية

خلق اللهُ الإنسانَ بفطرة قادرة – حين تصفو من كدر الأهواء – على استشعار الصدق والحقّ والعدل، والنفور من الكذب والباطل والظلم، ولهذا نجد الله عز وجل يخاطب مشركي العرب بآيات تتوجّه إلى فطرة الحقّ فيهم، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ}. وكثيرٌ ممن دخل في دين الله عزّ وجلّ وصدّق بهذا الدين كان مدخله في ذلك ما رأى من أخلاق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وما دعا إليه كتابُ الله من أخلاق وقيم. ومن ذلك ما ذكرته أمّ المؤمنين خديجة رضي الله عنها حين قال لها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في حديث بدء الوحي: “لقد خشيتُ على نفسي”، فقالت خديجة: “كلا واللهِ ما يخزيك اللهُ أبدًا، إنك لتصلُ الرحِمَ، وتحملُ الكلَّ، وتكسبُ المعدومَ، وتُقري الضيفَ، وتعينُ على نوائب الحقِّ” (صحيح البخاري). والشاهد أنّ هذه الصفات الخلقية كانت باعثا على إيمان يقيني عند خديجة رضي الله عنها.

ومن ذلك ما جاء في حديث الحبشة على لسان الصحابي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: “أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحّده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرَنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصيام. قال: فعدّد عليه أمور الإسلام، فصدّقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرّمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا” (مسند أحمد).

إنّ الفطرَ السليمة التي أتعبها العيش بغير منظومة أخلاقية، أو التي جرّبت منظومات معوجّة سقيمة، ستجد في كتاب الله غناء لقلوبها المرهقة. وممّا أنصح به في هذا الباب أحد الكتب التي تناولت هذه المنظومة الأخلاقية بالبيان الشامل، مع مقارنتها بالمنظومات الأخلاقية المشهورة في العالم، وهو كتاب “دستور الأخلاق في القرآن”، للدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله، والذي قدّم فيه دراسة مقارنة للأخلاق النظرية في القرآن، وأورد فيه ملحقا عرض فيه الآيات التي تقدّم أخلاق القرآن العملية في مختلف جوانب الحياة. وتكمن أهمية هذا الكتاب أنه جاء بلغة معاصرة تحاول استيعاب الخطاب الأخلاقي ونظرياته القديمة والحديثة، وتبيّن بأسلوب علمي محاسن الأخلاق القرآنية، وسيجد القارئ حين يطالع الكتاب وتناولَه لآيات الأخلاق في القرآن أنه يقف أمام منظومة أخلاقية متكاملة، خالية من العيوب والاختلالات، مقابل منظومات أخلاقية بشرية مضطربة، تجنح هنا حينًا وهناك أحيانًا، وتسير البشرية معها إلى الهلاك!

وفي هذا الباب أيضا، سيجد القارئ في كتاب “منهج التربية الإسلامية” للأستاذ محمد قطب رحمه الله عرضًا بديعًا للمنظومة التربوية في القرآن. ويوضّح الأستاذ محمد قطب في كتابه هذا أنّ في القرآن منهجا إسلاميا للتربية، ويحكي أنّه كان يوما في ضائقة نفسية شديدة، وكان القرآن كتابهم الأوحد الذي يقرأون فيه، وكان قد عاش فيه كل لحظة من النهار والليل، وكل آية وكل حادثة وكل خبر وكل توجيه، وبعد هذه المعايشة شعر بوضوح بهذا المنهج المتكامل للتربية الإسلامية في القرآن.

يقول عنه إنّه: “منهج متكامل لا يترك صغيرة ولا كبيرة.. يشمل النفس الإنسانية كلها بحذافيرها، ويشمل الحياة البشرية بالتفصيل”. ويقول: “منذ تلك اللحظة أصبح منهج التربية الإسلامية واضحًا في نفسي، واعيا في حسّي، أجد له الشواهد في كل توجيه قرآني، وفي كل حديث أو عمل للرسول صلى الله عليه وسلّم”. وأنا أنصح القارئ الكريم بقراءة هذا الكتاب، فسيجد فيه ثراء كبيرا في هذا الباب، وسيشعر بإحكام المنظومة التربوية كما جاءت في كتاب الله.

القرآن لا يُصادم العلم
ثمة حقيقة مهمة ينبغي لقارئ القرآن أن يلتفت إليها، وهي شيءٌ يُشعرنا حقّا باختلاف هذا النصّ عن جميع نصوص التراث التي نجدها بين أيدينا، حتى تلك التي كُتبت بعد نزول القرآن بقرون. تتمثّل تلك الحقيقة في أنّه مهما تقدّمت البشرية في مضمار العلوم، ستظلّ آيات القرآن خالدة لا يمكن لعاقل أن يوجّه لها اتهامًا بخطأ في أي معلومة تقدّمها.

ومن يقرأ في كتب التراث يدرك تماما عن أي شيء أتحدث، ويعلم أن الكثير من علماء المسلمين وغيرهم وقعوا في أخطاء علمية واضحة عندما يتحدّثون عن بعض الحقائق الكونية أو الطبية ضمن آفاق عصرهم العلمية. ومثل هذه الأخطاء لن تجدها في كتاب الله، ذلك النصّ الذي نزل على عربيّ يعيش في قلب جزيرة العرب، حيث لا حضارة ولا علوم يمكن مقارنتها بما بلغه من جاء بعده من الحضارات.

لا أقول هنا إنّ البشرية كلّما تقدّمتْ في العلوم عرفتْ أنّ القرآن سبقها في الإشارة إليها، بل أقول إنّ القرآن منزّه عن أن يصيبه ما يحدث لكل نصّ بشري بهذا الحجم تطرّق لحقائق الكون والطبيعة والنفوس. إنّ الحقيقة المثيرة للدهشة أنّ القرآن حين خاطب العرب بآفاقهم العلمية المحدودة كان يسير دائمًا في “منطقة آمنة” لا يستطيعها البشر مهما أوتوا من دقّة وحذر، منطقة تجعل أولئك العرب من ناحية يستوعبون الخطاب على ضوء ما يشاهدون من حقائق كونية وطبيعية، وتظلّ من ناحية أخرى متّسقة مع أي كشف علمي جديد يزيد من معرفتنا عن الكون والطبيعة.

لن تجد في القرآن آية تتحدث عن كيفية حدوث الأمراض بالطريقة التي ذكرها بعض علماء الطبّ بعد القرآن بقرون، والتي لن يملك أي طبيب معاصر إلا التبسّم عند قراءتها لخطئها الواضح على ضوء ما نعرفه اليوم. ولن تجد في القرآن آية تخبرك عن مصدر عجيب للمطر غير الغيوم، وتتحدث عن الغيوم كما لو كانت مجرّد “ممرّ” للمطر القادم من السماء كما قرأتُ في أحد كتب التراث. بل ستجد قوله تعالى عن المطر: {أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ}، ومهما تبجّحت البشرية الملحدة وحاولتْ تخطئة ما جاء في هذه الآية بذريعة أنّنا عرفنا أسباب هطول المطر، فسيظلّ كل جهد بشري في تفسير “أسباب” هطول الأمطار مندرجًا ضمن المفهوم الإيماني لأفعال الله عزّ وجلّ، والتي قدّر سبحانه أن يتم الكثير منها بأسباب مادّية يعقلها البشر (راجع تدوينة “لماذا لا نرى يد الله؟”).

جرّبوا قراءة القرآن على هذا النحو، ستلمسون إحكام الآيات في هذا الجانب بشكل مُبهِر، وهو إحكامٌ لا يتوفّر لبشري مهما بلغ من العبقرية، فلا يمكن لبشري أن يخوض هذا الحديث الطويل عن السماء والنجوم والشمس والقمر والنباتات والحيوانات والنفس البشرية دون الوقوع ولو في خطأ واحد فادح سيكتشفه العلمُ يومًا.

{ربّ العالمين} سنجد أنّه الوصف الأكثر دقّة لتندرج فيه جميع أسمائه وصفاته وأفعاله سبحانه؛ فالربّ هوو السيّد والمالك، ولا يستحقّ هذا الوصف على كماله إلا من كان عالما بكل شيء، خالقا لكل شيء

الإحكام اللغوي

ورغم أنّ معظم الناس اليوم لا يملكون من البلاغة والفصاحة ما يمكّنهم من الشعور ببلاغة آيات القرآن، إلا أنّه بالإمكان تسليط الضوء على بعض النماذج التي تبيّن مقدار الإحكام العجيب الذي يتجلّى في كتاب الله. وسنذكر في هذه التدوينة نموذجا واحدًا فقط، لن نتجاوز فيه سورة الفاتحة التي يقرؤها جميع المسلمين عدّة مرات في اليوم.

يكمن الإحكام في هذه السورة في كونها وُصفتْ بأنّها “القرآن العظيم” في الحديث الصحيح، وهي في نفس الوقت محورية جدّا في دين الإسلام، والدليل على ذلك أنّنا نقرؤها يوميّا 28 مرّة على الأقل، ولا تصحّ صلاتنا إلا بها. يقول الإمام برهان الدين البقاعي في وصفها إنّها: “الجامعة على وجازتها جميع معاني القرآن”. ولو نظرنا إلى قوله تعالى {الحمدُ لله} سنجد أنّ هذه الصياغة بلام الجنس هي الأكثر دقة للتعبير عن معاني القرآن، فلام الجنس هنا تستغرق جميع المحامد لله سبحانه، وهذا يعني أن جميع محامد الله التي ذكرها عن نفسه في القرآن مندرجة في هذه الكلمة، أي: الحمد كلّ الحمدِ لله، ولو قيل: حمدًا لله؛ لَما استغرقت هذه الكلمة – لغويا – جميع تلك المحامد! ولو نظرنا إلى قوله {ربّ العالمين} سنجد أنّه الوصف الأكثر دقّة لتندرج فيه جميع أسمائه وصفاته وأفعاله سبحانه؛ فالربّ هو السيّد والمالك، ولا يستحقّ هذا الوصف على كماله إلا من كان عالما بكل شيء، خالقا لكل شيء، مدبّرا لكل شيء، قادرا على كل شيء… مع سائر صفاته وأفعاله سبحانه التي بسطها في كتابه.

وقد تناولتُ وجه الإحكام اللغوي وتعبير الفاتحة بدقّة متناهية في جميع آياتها عن مضامين القرآن في تدوينة سابقة بعنوان “سورة الفاتحة.. كما لم تقرأها من قبل”، وهي نموذج لما يمكن أن يلمسه القارئ من بلاغة القرآن. وبعدُ، فهذه مجرّد لمحات وتوجيهات لعقول ترغب باستشعار مواضع الإعجاز في كتاب الله، ويبقى الجهد الأكثر أهمية في هذا الباب هو جهد تدبّر القرآن بقلوب صادقة وعقول متفتّحة للحقّ، فحينئذ سيكشف القرآن لها عن أسراره، وسيُظهر لها من الآيات ما يُسكن اضطرابها ويطفئ حيرتها.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى