مقالاتمقالات مختارة

كيف نسدد ونقارب دون توتر وتشنج؟

كيف نسدد ونقارب دون توتر وتشنج؟

بقلم هدى عبد الرحمن النمر

لقد نبهنا المصطفى صلى الله عليه وسلم لمكانة السعي والتخطيط الحقة، بغير إفراط ولا تفريط ، فقال”استقيموا ولن تحصوا” أي لن تستطيعوا بحولكم وقوتكم إلا بعون الله تعالى، ولن تبلغوا أداء حقه تعالى على كل حال، وإنما “سدّدوا” أي الزموا هديه وسنته ، “وقاربوا” أي لا تشددوا ولا تفرّطوا.

فليس القصد كمال الاستقامة والامتناع المطلق عن الخطأ، وإنما تجنب الخطأ وعدم الإصرار عليه، وأن يكون عارضاً طارئاً على الطريق لا أصل الطريق. وكذلك الندم على الخطأ ليس مقصوداً بذاته، فتقضي العمر في اجتراره وتقعد عن العمل مكتئباً بسببه، بل هو مقصود ليكون باعثاً على التدارك ومضاعفة الحسنات، وتنمية الفضائل، لكي تزيد على أخطائنا فتتلاشى من الميزان بتوفيق الرحمن: “وأتبِعِ السَّيِّئةَ الحسنةَ تمْحُها” [رواه الترمذي].

فليس المستقيم حقيقة من لا خسائر ولا أخطاء له البتة، ولكن من فاقت أرباحه خسائره، ورجَحت فضائلهُ على أخطائه، فلا تُضِف إلى أخطائك اليأس من محوها، ولا تتخذ الغم في ذاته عملا.

ليس القصد كمال الاستقامة والامتناع المطلق عن الخطأ، وإنما تجنب الخطأ وعدم الإصرار عليه، وأن يكون عارضاً طارئاً على الطريق لا أصل الطريق

“وأبشروا” برحمة الله تعالى وفضله، “فإنَّهُ لن يُدْخِلَ الجنَّةَ أحدًا عَملُهُ” قالوا: “ولا أنتَ يا رسولَ اللَّهِ”، قالَ: “ولا أَنا، إلَّا أن يتغمَّدَنيَ اللَّهُ منهُ برحمةٍ”.

ذلك أن التعامل مع الله تعالى هو دائما مضمون النتيجة مأمون العاقبة؛ لأن العبرة فيه ليس بمن استكثر والسلام، وإنما بمن صدَقَ وأخلَص؛ فنحن نتعبد الله على طول سلوك الطريق وليس فقط ببلوغ المقصد، والمجاهدة للوصول هي حقيقة الوصول بفضل الله ورحمته.

وقد قال الله تعالى لنا: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَاَ}، [العنكبوت: 69]، الله تعالى سيهدينا سبيله هو، ولسنا نحن من سنصيب السبيل بأنفسنا ، وإنما غاية المطلوب منا أن نصدق في الرغبة إليه تعالى، والمجاهدة في الاستقامة على أمره، والمقاربة ما وسِعْنا، فمن صدق في ذلك صدقه الله وتولاه.
التعامل مع الله تعالى هو دائما مضمون النتيجة مأمون العاقبة؛ لأن العبرة فيه ليس بمن استكثر والسلام، وإنما بمن صدَقَ وأخلَص.

وتأمّل قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}، [الأنفال: 24]، تجد أن التوفيق من الله ييسره لمن يعلم من حقيقة نفسه أنه يستحق التوفيق، فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فإذا أريته من قلبك صدق النية يسّر لك الاستقامة ويسرها عليك، وإذا أخذت في أرضه بأسبابه في العمل والسعي، مسلِّما له وحده أمر قلبك في ذات الوقت، موقِنا بحكمته في تدبير أمرك وأنه يعلم ما لا تعلم وأن الخير كله إليه، اختار لك وأرضاك وأغناك عن كثرة الحيل، والتشنج للأسباب والنتائج، والتحسر على الرائح والغادي.

وهذا هو الجزء من المعادلة الذي لا نلتفت إليه في استعجالنا للعمل واغترارنا بصور الخير ومظاهره قبل بواعثه ودوافعه. إن الله لا يقبل أي خير، ولكن الخير الموصول برجاء وجهه الكريم : “إنَّ اللهَ تبارك وتعالى لا يَقبلُ من الأعمالِ إلا ما خلُصَ له، ولا تقولوا: هذه للهِ وللرَّحِمِ؛ فإنها للرَّحِمِ، وليس للهِ منها شيءٌ، ولا تقولوا: هذه للهِ ولوجوهِكم؛ فإنها لوجوهِكم، وليس للهِ منها شيءٌ” (رواه البزار والبيهقي وهو حديث صحيح لغيره).

وإن هواجس الخوف والقلق والحيرة من صعوبة السبيل والثبات عليه، حقيقتها أننا لا نوقن بأن الله هو الهادي مطلقا، فبالله لا بأنفسنا نرجو أن نهتدي، وبحوله لا بقوتنا نستعين، وبالأسباب نأخذ لكن الرجاء كله معلق بتوفيقه وقبوله ومباركته في تلك الأسباب لتؤتي ثمارها.

إن هواجس الخوف والقلق والحيرة من صعوبة السبيل والثبات عليه، حقيقتها أننا لا نوقن بأن الله هو الهادي مطلقا

وإن طوق النجاة الوحيد، والبشرى الأكيدة، والنور الخالد، لا يكون إلا باستحكام شعور الافتقار إلى الله تعالى في قلبك في كل أمرك، {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: 40]. وقتها فقط ستغمر قلبك طمأنينةٌ لا ينتزعها هاجس ولا قلق ولا تخوّف؛ لأنك تعلقت بسبب لا ينقطع، ووقتها فقط سيمكنك أن تأخذ قرارات حياتك واختياراتها بقوة وعزم، فطالما اجتهدت في السداد واستعنت وتوكلت، فأمرك كله خير في العاقبة، مهما كانت النتائج المباشرة. لذلك كان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم صباحا ومساء: “يا حيُّ يا قيُّومُ برحمتِك أستغيثُ، أَصلِحْ لي شأني كلَّه، ولا تَكِلْني إلى نفسي طرفةَ عَيْنٍ” [الألباني]. فاستعصم دائما بالدعاء وأوقن بالإجابة، ولا تملّ؛ لأن الدعاء في أصله عبادة: “الدُّعاءُ هوَ العبادةُ” [رواه الترمذي].

إن الله قريب، لكننا من يختار أن يبتعد: “يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ […] يا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ” [صحيح مسلم].

وإذا تأملت في معالم النجاة المبيّنة في سورة الكهف، تبين لك أن طوق النجاة الأكيد وسط بحور الفتن والشهوات والحيرة، هو بداية في الافتقار إلى الله تعالى على طول الطريق، والاستعصام برجاء هدايته وتثبيته أبد الدهر : {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ۖ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} [الكهف: 17]، وثانيا بتقويم نسق مفاهيمك ومبادئك وأولوياتك، بإدراك الأشياء على طبيعتها وحقيقتها، ووضعها في أقدارها وأولوياتها كما أراد الله لها، تلك سنة الله تعالى ما لها من تبديل، فأوقن بها ثم اصطبر عليها بحول الله وعونه وتوفيقه، هو سبحانه الموفق والمستعان: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 7]

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى