كيف نجاهد حب المنصب والسلطة؟
د. سيرين الصعيدي
أمدنا الله سبحانه وتعالى بأسباب كثيرة ومقومات تمكننا من العبور في هذه الحياة وتحقيق الغاية منها، والتي من أجلها ولها خلقنا أساسا وهي التحقق والتمثل في عبودية الله منذ المنشأ وحتى المصير، لا يغفل عن ذلك إلا غافل أو ظالم لنفسه، ولا سيما أن الله سبحانه وتعالى بيّن لنا الهدف من خلقنا ووجودنا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
وما آتانا الله من مال وصحة وجاه ومركز ومنصب وسخر لنا الكون هذا كله إلا أسباب أمدنا بها لتمكننا من أداء ما ترتب على وجودنا من غاية ومقصد، والأصل في الإنسان العاقل الواعي وبالأخص المسلم الذي زوده الله بتعاليم الكتاب المبين وسنة النبي الأمين أن ينظر لهذه الأسباب على أنها مسؤوليات وتكليفات كلفه الله بها سيحاسب على صغيرها وكبيرها، لا تشريفات يتمتع بها وفق أهوائه ومزاجه.
والمنصب والسلطة من جملة هذه الأسباب التي ابتُلي المسلم بها والتي هي سلاح ذو حدين، فإما أن تكون على من ابتُلي بها بل وعلى الأمة كلها وبالا ونقمة، أو نعمة إن أدى حقها وراعى بها حقوق الله والعباد وفق ما شاء الله وأراد، المهم أن يحرص المسلم على كيفية التعامل معها فلا يطلبها لذاتها على أنها مقصد وغاية لا وسيلة وسبب لغاية، وما تهدمت الدول وزُلزلت أركانها إلا عندما اختل فهمنا لهذه الوسائل والأسباب فأصبحنا نطلبها لذاتها، وأصبحت السلطة والمركز شهوة تمكنت من نفوس أصحابها تحرك فيهم داعي الظلم والجبروت وسفك دماء الأبرياء واعتلاء ظهور المساكين، فأصبحت المناصب وعروش السلطة متوقدة متوهجة بحيث باتت تخطف أبصار وبصيرة من تملكتهم حبها فما كان لهم أن يهتموا بأي الطرق يصلون إليها وأي السبل يعتلونها ولو أدى بهم ذلك للعبور نحوها على جماجم شعوبهم وأمتهم.
أصبحت المناصب وعروش السلطة متوقدة متوهجة بحيث باتت تخطف أبصار وبصيرة من تملكتهم حبها فما كان لهم أن يهتموا بأي الطرق يصلون إليها وأي السبل يعتلونها ولو أدى بهم ذلك للعبور نحوها على جماجم شعوبهم وأمتهم
وما انتشار الظلم في هذا العالم وطغيان الجبروت وسحق الأبرياء وامتلاء السجون وسفك الدماء وانتشار آلة الحرب إلا لإشباع شهوة طلاب المناصب والكراسي المستعرة في نفوسهم، فطمست بصيرتهم عن النظر لحقائق الأمور لتقف عند ظواهرها، ولو كلف الواحد منهم أن يقف على نص حديث شريف من أحاديث المصطفى العدنان وهو يحذر أصحابه الكرام من طلبها والتهافت عليها لأدرك عِظم الخطر المترتب على مثل هذه المسؤوليات، فيفر منها فراره من المجذوم لو عرضت عليه ناهيك عن أن يسعى في ركابها أو أن يذهب بنفسه ليخوض غمارها.
ويحذر الرسول الأعظم من داء حب المنصب والسلطة ويرشد أصحابه الكرام وهو الرحيم بهم والحريص على سلامة كل متبع لهذه الشريعة – فهو المبعوث لهم رحمة ليخرجهم من الظلام إلى النور، وتأمل موقف الرسول – صلى الله عليه وسلم – مع الصحابي الجليل وقد جاءه طالبا تقلّد الإمارة في زمانه: “يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم” [صحيح مسلم: ج3، ص1457]، وفي رواية أخرى عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله ألا تستعملني قال: “فضرب بيده على منكبي ثم قال: يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها” [صحيح مسلم: ج3، ص1457]، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – يرشد أبا ذر برفق المحب لحبيبه فيدفعه عنها لحبه إياه، ولو كان بها شرف وزيادة خير وفضل لأبي ذر ما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – ليزهده بها.
وقد علق النووي على هذا الحديث: “هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات، لا سيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائف تلك الولاية، وأما الخزي والندامة فهو في حق من لم يكن أهلا لها، أو كان أهلا ولم يعدل فيها، فيخزه الله تعالى يوم القيامة ويفضحه ويندم على ما فرط، وأما من كان أهلا للولاية وعدل فيها فله فضل عظيم تظاهرت به الأحاديث الصحيحة” [شرح النووي على صحيح مسلم: ج12، ص211]، ويضيف ابن حجر تعليقه على هذا الحديث: “ولكن في الدخول فيها خطر عظيم ولذلك امتنع الأكابر منها” [فتح الباري: ج13، ص126].
ويستشرف الرسول – صلى الله عليه وسلم – المستقبل وما سيحدث به من تفشي الحرص على الإمارة، وينبه على خطورة هذا الداء، فقد ورد عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ على الْإِمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يوم الْقِيَامَةِ، فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتْ الْفَاطِمَةُ” [صحيح البخاري: ج6، ص2613]، فيعقب ابن حجر على هذا: “فلا ينبغي لعاقل أن يفرح بلذة تعقبها حسرات” قال المهلب: “الحرص على الولاية هو السبب في اقتتال الناس عليها، حتى سفكت الدماء واستبيحت الأموال والفروج وعظم الفساد في الأرض بذلك، ووجه الندم أنه قد يقتل أو يعزل أو يموت فيندم على الدخول فيها؛ لأنه يطالب بالتبعات التي ارتكبها وقد فاته ما حرص عليه بمفارقته” [فتح الباري: ج13، ص126].
والمغذي الأساسي لحب السلطة والمنصب في نفوسنا هو حقيقة الانشغال بحلو مظهرها، والتمتع بلذاتها، والغفلة عن ما يترتب عليها من مساءلة ربانية عن كل صغيرة وكبيرة، واستحضار ثقل وعظمة مسؤوليتها، وللكشف عن مدى تفشي هذا الداء في نفس الواحد منا واستقراره واستتاره في قلبه من خلال اختبار يجريه المرء على نفسه وذلك بمراقبة نشاطه وكيفية إقباله على الأعمال التي عُهد للشخص القيام بها بعيداً عن الأضواء وشهود الناس له، ومراقبة حاله وحضور همته وقلبه في أعمال وجبت عليه، ولا يسع أحداً القيام بها عنه.
المغذي الأساسي لحب السلطة والمنصب في نفوسنا هو حقيقة الانشغال بحلو مظهرها، والتمتع بلذاتها، والغفلة عن ما يترتب عليها من مساءلة ربانية عن كل صغيرة وكبيرة، واستحضار ثقل وعظمة مسؤوليتها
ومن طرق العلاج لهذا الداء:
1. الحرص على طاعة الله والإخلاص في عبوديته، مهما كان دور المؤمن ومقامه فهي الغاية من أعمالنا، وهو ما قد وصفه لنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – الذي نبه على الداء وحذر منه ويكمن في قوله صلى الله عليه وسلم: “طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ في سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَث رَأْسُهُ، مُغْبَرَّة قَدَمَاهُ، إن كان في الْحِرَاسَةِ كان في الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كان في السَّاقَةِ كان في السَّاقَةِ” [صحيح البخاري: ج3، ص1057]، فنجد النبي – صلى الله عليه وسلم – يمدح أولئك الذين لا هم لهم إلا القيام بما يحبه الله ويرضاه، دون أن يُلقي بالا لمكانته أو منصبه، فلا يهمه إن كان جنديا مجهولاً أو قائداً مشهوراً أو تقياً خفياً، وكأنه – صلى الله عليه وسلم – يريد أن يرسخ معنى الجندية وحقيقة العبودية التي يجب أن يكون عليهما المؤمن متجذرة في نفسه ملازمة له في جميع أطواره، وهل للمؤمن همّ إلا أن يقوم مقام العبد يلزم باب ربه لا تغره المناصب والمراكز، فكل ذلك إلى زوال ولا يدوم حال على حال، وهذا ما فقهه سعد رضي الله عنه، فعن عامر بن سعد أن أباه سعدا كان في إبل له وغنم، فجاءه ابنه عمر، فلما رآه قال: “أعوذ بالله من شر هذا الراكب” فلما انتهى إليه، قال: “أرضيت أن تكون أعرابياً في إبلك وغنمك، والناس في المدينة يتنازعون الملك؟” قال فضرب صدره بيده، وقال: “يا بني اسكت فإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي” [مسند أبي يعلى: ج2، ص85].
2. إقصاء طلاب السلطة وخُطّاب المناصب عنها، امتثالاً للنبي – صلى الله عليه وسلم – فعن أبي موسى – رضي الله عنه – قال: دخلت على النبي – صلى الله عليه وسلم – أنا ورجلان من قومي، فقال أحد الرجلين: مُرنا يا رسول الله، وقال الآخر مثله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إنا لا نوَلّي هذا من سأله، ولا من حرص عليه” [صحيح البخاري: ج6، ص2614].
3. تقدير العواقب المترتبة إن قصّر في حقوقها وواجباتها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: “ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك، إلا أتى الله عز وجل مغلولاً يوم القيامة يده إلى عنقه، فكه بره أو أوبقه إثمه، أولها ملامة وأوسطها ندامة وآخرها خزي يوم القيامة” [مسند أحمد بن حنبل: ج5، ص267].
وفي نهاية المطاف، لا يفهم مما سبق تحريم طلب ولاية من الولايات أو منصب من المناصب تحريماً على الإطلاق، وإنما يباح لمن وجد في نفسه الكفاءة والثقة أن يتقدم لذلك، شريطة أن يجد في نفسه من القوة ما يمكنه من أداء مسؤولياته وواجباته بحدود ما أمر الله، مقيما للعدل ولو على نفسه وخاصته.
وتمتاز شريعة الإسلام بوسطيتها ومرونتها ففي مقابل أحاديث النهي عن التعرض للسلطة وطلب المنصب سلطت لنا الضوء على موقف النبي يوسف – عليه السلام – وهو يعرض نفسه على عزيز مصر؛ ليقلده مركزاً مهماً في عصره يتمثل في قوله تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]، فعلى ضوء ذلك لا حرج ولا إثم من أن يعرض من يجد في نفسه القدرة والكفاءة، خاصة إذا كان بإحجامه وإعراضه ما يؤول بهذا المركز أو المنصب لأشخاص لا يراعون حقوق الله والعباد، بل ربما استخدموا منصبها وسلطتهم لإشاعة الفساد في الأرض، وقد دلت الآية: “على جواز أن يخطب الإنسان عملاً يكون له أهلاً” [تفسير القرطبي: ج9، ص215].
لا حرج ولا إثم من أن يعرض من يجد في نفسه القدرة والكفاءة، خاصة إذا كان بإحجامه وإعراضه ما يؤول بهذا المركز أو المنصب لأشخاص لا يراعون حقوق الله والعباد، بل ربما استخدموا منصبها وسلطتهم لإشاعة الفساد في الأرض
فإن قيل إن هذا يتعارض مع نهي النبي – صلى الله عليه وسلم – في الأحاديث السابقة عن طلب الإمارة، فيجاب على ذلك: “أن يوسف -عليه السلام – إنما طلب الولاية؛ لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم، فرأى أن ذلك فرض متعين عليه، فإنه لم يكن هناك غيره، وهكذا الحكم اليوم، فلو علم إنسان من نفسه أنه يقوم بالحق في القضاء أو الحسبة ولم يكن هناك من يصلح ولا يقوم مقامه لتعين ذلك عليه ووجب أن يتولاها ويسأل ذلك ويخبر بصفاته التي يستحقها به من العلم والكفاية وغير ذلك، كما قال يوسف – عليه السلام – فأما لو كان هناك من يقوم بها ويصلح لها وعلم بذلك، فالأولى ألا يطلب” [تفسير القرطبي: ج9، ص216]
(المصدر: موقع بصائر)