مقالاتمقالات المنتدى

كيف نتداوى من الأمراض النفسية؟

كيف نتداوى من الأمراض النفسية؟

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

كانت الاضطرابات النفسية البشرية وكثير من وسائل علاجها معروفة منذ القدم في مصر والهند والصين وعند اليونانيين والرومان، ثم تبع ذلك فترة تدهور أصبح ينظر فيها إلى الأمراض النفسية أنها ليست إلا مس من الجن أو غضب من الآلهة (حسب معتقدات كل شعب)، ومن ثم جاء الإسلام بنظامه المتكامل الشامل المنظّم لكل شؤون الحياة النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ونزل القرآن الكريم شاملاً لطبائع النفوس وطرائق علاجها. وأضافت السنة النبوية المطهرة الكثير من التفاصيل لما ذكره القرآن الكريم مجملاً في هذا المجال (محمد عبد الفتاح المهدي، العلاج النفسي في ضوء الإسلام، ص 11).

إن التقدم الحضاري – في كل جانب من جوانب الحياة الإنسانية- خطا خطوات واسعة ومتقدمة جداً في الطب البشري المتعلق بالأبدان سواء في التشخيص أو في العلاج أو في الوقاية. ولكن هناك كثير من الحالات النفسية ما زالت مستعصية عليه، وتشكل أسئلة حرجة وصعبة أمام ذاك التقدم العلمي الكبير إلى الآن.

وللقرآن الكريم قوةٌ روحية تؤثر تأثيراً كبيراً في النفس الإنسانية، والآيات التي ذكرت (الشفاء) القرآني، تتعلق بالشفاء البدني والشفاء القلبي والنفسي، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82].

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].

إن العلاج بــالقرآن لــيس مجــرد علاج أو شــفاء مــن مــرض مــا، وإنما هــو شـفاء ورحمــة وتربيـة وســعاد وقــرب مـن الله، وهــو طريق للنجــاح فــي الــدنيا الآخرة، بــل إن العلاج بــالقرآن إعــادة شــاملة وبرمجــة متكاملــة للحياة والجسد والنفس والروح. (عبد الدائم الكحيل، عالج نفسك بالقرآن، ص 5).

أولاً: حكم التداوي من الأمراض النفسية:

اختلف الفقهاء رحمهم الله في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

القول الأول: يجب التداوي من الأمراض النفسية إن ظن نفع الأدوية، وهذا مقتضى ما ذهب إليه بعض الحنفية، ووجه عند الشافعية، وقول ضعيف عند الحنابلة، حيث يرون أن التداوي واجب إن ظن نفعه. ويمكن أن يستدل لهم بما يلي: (خلود المهيزع، أحكام المريض النفسي، ص 476)

ما وقع من أحاديث كثيرة من ذكره صلى الله عليه وسلم لمنافع الأدوية والأطعمة، وبأنه صلى الله عليه وسلم كان يديم التطبيب في حال صحته ومرضه، وبأخبار عائشة رضي الله عنها بكثرة تداويه وبأمره التداوي في أحاديث كثيرة منها:

  1. حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ما أنزل الله من داء إلا له شفاء”
  2. حديث جابر رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء، برئ بإذن الله.
  3. جاءت الأعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ فقال: “نعم يا عباد الله، تداووا؛ فإن الله عز وجل لم يضع داء، إلا وضع له شفاء، غير داء واحد، قالوا: ما هو؟ قال: “الهرم”. (خلود المهيزع، أحكام المريض النفسي، ص 477)
  4. حديث زيد بن أسلم أن رجلاً في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه جرح، فاحتقن الجرح بالدم، وإن الرجل دعا رجلين من بني أنمار، فنظرا إليه، فزعم زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: “أيكما أطب؟ فقالا: أو في الطب خير يا رسول الله؟ فزعم زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أنزل الدواء الذي أنزل الأدواء”. (خلود المهيزع، أحكام المريض النفسي، ص 478)

ووجه الدلالة من الأحاديث:

في هذه الأحاديث الأمر بالتداوي، والحث عليه ومن ذلك التداوي من الأمراض النفسية، وأنه لا ينافي التوكل على الله كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، والأصل في الأمر الوجوب ما لم يصرفه صارف عنه؟

  1. أن التداوي يدخل في جملة ما أمر به المسلم من الحفاظ على بدنه، فما ثبت بالعلم والتجربة حصول الشفاء به، لا ينبغي للمسلم أن يمتنع عن التداوي به، وإلا ارتكب ظلماً في حق نفسه بمنعها من الشفاء وعرضها فريسة للأمراض النفسية. (خلود المهيزع، أحكام المريض النفسي، ص 478)
  2. إن في عدم التداوي من الأمراض النفسية مع توفر دوائها نوعاً من إلقاء النفس إلى التهلكة، وهذا أمر منهي عنه قال تعالى: }وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ{ سورة البقرة: 195.

فالتدخل بالعلاج السريع في حالات مرض الاكتئاب، يقلل من احتمالات الانتحار ويقي من محاولاته.

  1. أن في عدم التداوي من الأمراض النفسية ضرراً في الدين، فما يلاحظه الأطباء النفسانيون خلال عملهم من ترك المريض النفسي للصلاة وإحساسه بفتور علاقته مع الله عز وجل كما في مرض الاكتئاب أو الوسواس القهري، ومن عودته للصلاة بعد تحسن حالته وتناول العلاج.
  2. أن في ترك التداوي من الأمراض النفسية ضرراً على الأهل والمحيطين به، فترك علاج الفصام أو الاكتئاب أو الاضطرابات الوجدانية يؤدي إلى ضرر على الأهل المحيطين به، فقد يعتدي عليهم، وقد يقتل، وقد ورد النهي عن الإضرار بالمسلمين كما في حديث: لا ضرر ولا ضرار. (خلود المهيزع، أحكام المريض النفسي، ص 479)
  3. أن التدخل بالعلاج السريع في حالات مرض الاكتئاب يقصر من فترة المرض الطبيعية من عدة أشهر إلى عدة أسابيع، واستخدام مضادات الذهان في علاج مرض الفصام قلل من معاناة المرضى وذويهم، وأوقف عملية الإزمان والتدهور وتدهور الشخصية، واستخدام العقاقير قلل من احتمالات انتكاس مرضى الفصام وفقدان الوظيفة ويمنع دون انهيار العائلة وخسارة المجتمع من المرضى النفسي والشفاء منه، أو أمكن التخفيف من عواقبه وما يؤدي إليه من زمانة أو إعاقة، فإن التداوي يصبح واجباً لما في التداوي من منافع تعود على المرء وعلى المجتمع، ولا تجعله كلاً على الناس في قضاء حاجاته، وبالتالي يشق عليهم، وقد أثبتت البحوث الطبية الحديثة أن عدم علاج كثير من الأمراض النفسية أو تأخيرها يؤدي إلى إزمان المرض وشدته.
  4. أن في عدم التداوي من الأمراض النفسية ضرراً على الزوجة؛ لأن بعض الأمراض النفسية تسبب ضعفاً جنسياً، فيجب عليه التداوي حتى يعف امرأة والضرر يزال.

القول الثاني: يباح التداوي من الأمراض النفسية وتركه أفضل. وهذا مقتضى ما ذهب إليه الحنفية والمالكية والحنابلة، حيث يرون بأن التداوي مباح وتركه أفضل. (خلود المهيزع، أحكام المريض النفسي، ص 480).

 

 

 

ثانياً: كيف نتداوى من الأمراض النفسية؟

كما ذكرنا، فإن الأخذ بالأسباب من الأمور التي لا غنى للإنسان عنها؛ فالطب نعمة من نعم الله على خلقه، فالمراجعة الطبية والعلاج النفسي، والقراءة في علم الطب النفسي وغير النفسي أمر مقدر ولا بد منه، ولكن يمكن للإنسان المسلم أن يتسلح بترسانة من المعاني والقيم الإيمانية والروحية التي تجعل طريقه هيناً وهمه مفرجاً بإذن الله.

1- الإيمان بالله أولاً

يقول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: وذلك بطمأنينة قلبه وسكون نفسه وعدم التفاته لما يشوش عليه قلبه ويرزقه الله رزقا حلالا طيبا من حيث لا يحتسب {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} في الآخرة {أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من أصناف اللذات مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فيؤتيه الله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة. (السعدي، تفسير الكريم المنان، ص 448).

وذكر عالم النفس الأمريكي (هرني لينك) في كتابـه (العـودة إلى الإيمان): أنـه وجـد نتيجـة خبرتـه الطويلـة في تطبيـق الاختبـارات النفسية على العمل في عملية الاختبار المهنـي والتوجيـه المهنـي، بأن الأشـخاص المتدينين والـذين يـترددون عـلى دور العبـادة يتمتعـون بشخــصية أقــوى وأفــضل ممــن لا ديــن لهــم، أو لا يقومــون بأي عبادة (الإيمان والحياة، ص 342).

2- ذِكر الله باللسان والقلب

من وسائل العلاج النفسي في القرآن الكريم ذكر الله، والتأمل في عظمته، وتصور قدرته، وقد أمر الله بذلك فقال:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)} [الأحزاب: 41 – 43].

وقد صرح القرآن الكريم بأن من أسباب شقاء الإنسان في الدنيا وضياع نفسه، التخلي عن ذكر الله والإعراض عنه، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].

وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)} [الزخرف: 36].

وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19].

إن الذي يذكر الله، ويتأمل في عظمته ويتصور قدرته، يلين قلبه ويخضع فؤاده، ويطأطئ رأسه، فلا صدر عنه من الأقوال والأعمال إلا ما فيه الخير والصلاح. وهكذا تسري الطمأنينة في نفسه، ولا يكون للهم والقلق إلى قلبه سبيل. (إبراهيم النعمة، العلاج النفسي في القرآن الكريم، ص 20).

3- الإيمان بقضاء الله وقدره

ولما كان الإنسان مفطورا على حب المال، فإنه يظل مشغولاً بجمعه والحفاظ عليه، وقد كثرت حوادث الانتحار والإصابة بالجنون والانهيار العصبي، وكثير من هذه الحالات سببها الصراع على الرزق، أو الطمع في زيادته، أو الكارثة بفقده. والمسلم يؤمن تمام الإيمان أن رزقه بيد الـلـه – وبيد الـلـه وحده – وانه تعالى هو الذي قسم الأرزاق بين الناس… إن هذا ً الاعتقاد لدى المسلم الحق يجعله شجاعا لا يخشى الفقر، وكيف يخشاه وهو يتلو قول الـلـه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58]. وقوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22]. حتـى إن قـدر الـلــه عليـه أن تكون يده ضيقة، فإنه راض بما قدره الـلـه وقضاه – بعد أن يأخذ بأسـباب الرزق كلها – يقنـع بالقليـل الـذي لديـه ويحمـد الـلــه عـلى نعمـه الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى. (إبراهيم النعمة، العلاج النفسي في القرآن الكريم، ص 20).

4- أجل المؤمن ومصيره

يوقن المؤمن الصادق الإيمان بأن له عمـراً محـدداً لا يزيـد ولا ينقص؛ فلا يستطيع أحد أن يقدم مـن أجلـه سـاعة أو يـؤخره. وقد قـال تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 11].

وقد فهم سلف هذه الأمة هذه العقيدة الـسليمة وآمنـوا بهـا، فعاشوا في كنف الطمأنينة والسكينة، وتجلى شيء من ذلك مما كـان من الحجاج بن يوسف الثقفي، فإنه لما هدد سعيد بن جبير بالموت، أجابه سعيد: لو علمت أن المـوت والحيـاة في يـدك مـا عبـدت إلهـا غريك!

هذه بعض الوسائل التي تقي الإنسان الاضطرابات النفسية والأمراض القلبية، والتي تجعل حياة الإنسان طيبة مطمئنة مستقرة، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97].

وما أحوجنا إلى التمسك بمنهج الله ليرأب صدعنا، ويداوي سقمنا، ويخلصنا من أمراض فتاكة تركت صرعاها يتقلبون على جمر الغضى، ويرتمضون أسى، وليس سوى هذا الدين يملك إنقاذ التائهين في دياجير الظلام، والضالين في جنباتها، وليس سوى هذا الدين بقادر على إحياء ما مات في نفوسنا، وما فقدناه من عناصر الطمأنينة النفسية والراحة القلبية، قال الله جل في علاه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]. (إبراهيم النعمة، العلاج النفسي في القرآن الكريم، ص 44، 45).

وأخيراً يمكن القول: إن العلاج والتداوي من سنن الأخذ بالأسباب، ولأن الطب بكل تخصصاته من العلوم الأساسية في الحياة البشرية، فإن بتطبيقه تحصل كثير من المصالح العظيمة والمنافع الجليلة، والتي منها حفظ الصحة، ودفع ضرر الأسقام والأمراض عن بدن الإنسان، فيتقوى المسلم بذلك على طاعة ربه تعالى ومرضاته (الصلابي، أهمية الطب ومكانته زمن الأزمات، 4/12/2022).

 

المراجع:

  1. أحكام المريض النفسي في الفقه الإسلامي، د. خلود عبد الرحمن المهيزع، دار الصميعي للنشر، الرياض، السعودية، 2013م.
  2. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، دار الرسالة، الطبعة الأولى، 1420ه.
  3. الطب ومكانته زمن الأزمات، علي محمد الصلابي، الجزيرة نت، 4/12/2022م.
  4. عالج نفسك بالقرآن، عبد الدائم الكحيل.
  5. العلاج النفسي في القرآن الكريم، إبراهيم النعمة، دار المأمون للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2000م.
  6. العلاج النفسي في ضوء الإسلام، عبد الفتاح المهدي، دار الوفاء للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1990م.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى