كيف كان دور المرأة الأندلسية في المجتمع المسلم؟
بقلم سلسبيل صيام
كانت المرأة الأندلسيّة تتمتع بمكانة رفيعة سامية في تلك الحقبة التي عاشتها في بلاد الأندلس العريقة، فقد أولت الأسرة الأندلسيّة اهتمامًا بالبنت كما الولد، ولم تفرّق بينهما أبدًا، ومن صيغ الاهتمام كأن يُطلق عليها اسم إحدى شهيرات الإسلام مع كُنية أسماء مستمدّة من أسماء الزهور، كما فعل المنصور بن أبي عامر المشهور، الذي تسلّم الحكم في الأندلس بعد الحَكَم، حيث كان له ثلاث بنات سماهنَّ بهارًا ونرجسًا وبنفسجًا.
فقد كانوا يحرصون على تنشئتهنَّ على الصلاح ومكارم الأخلاق منذ نعومة أظافرهنَّ، حتى ينتقلن إلى أزواجهنَّ، فتكون معه بود وحب، دون أن تذم عشرته، أو تنغص عيشه، والشواهد على ذلك كثيرة جمّة، يقول الشّاعر ابن حميدس الملقب بذي الوزارتين يصف ابنته:
فيا غرسة للأجر كنت نقلتها إلى كنفي صونا وألحفتها ظلّي
وأنكحتها من بعد صدقٍ حمدتهُ كريمًا فلم تذمم معاشرة البعل
كما بلغت المرأة الأندلسيّة حظًا وافرًا من التعليم، فنبغ عدد كبير منهنّ في العلوم والآداب والفنون، وكان يُعهد إليهن تربية أبناء الأمراء والأغنياء والشعراء، وغيرهم ممن لهم منزلة ومكانة في المجتمع الأندلس في تلك الفترة، كان من بينهم الفقيه المعروف “ابن حزم الأندلسي” الذي يذكر ذلك في رسائله: “ولقد شاهدتُ النّساء، وعلمتُ من أسرارهنّ ما لا يكاد يعلمه غيري، لأني رُبّيتُ في حجورهنَّ، ونشأتُ في أيديهنَّ، ولم أعرف غيرهنَّ، ولا جالستُ الرّجال، إلا وأنا في حدِّ الشّباب وحين تبقّل وجهي، وهنّ علمنني القرآن، وروينني كثيرًا من الأشعار، ودربنني في الخط”.
والشواهد على ذلك كثيرة جمة، مما وصلت إليه المرأة من مكانة رفيعة، حتى عمدت واتسع نفوذها إلى الملوك والسّلاطين في عهد ملوك الطوائف والمرابطين، فقد حظيت المرأة علاوة على مكانتها، انفتاحها أمام الرّجال، وتغنيها بالشّعر، وحفظها للقرآن الكريم، وعلومه من فقه وحديث وأحكام ونحوها، بل كانت المرأة التي تحفظ القرآن تُعلّق على باب بيتها قنديلًا، إشارة إلى أنّها حافظة، وكان في قرطبة لوحدها ما يقارب المائة وسبعين امرأة يكتبن القرآن بالخط الكوفي، علاوة على فهم الحديث الشّريف وروايتهِ، فلا يقل عدد الراويات عن الحافظات، فقد رُوي عن جارية تدعى “عابدة المدنية” أنها كانت تروي عن أنس إمام دار الهجرة بالمدينة المنوّرة عشرة آلاف حديث.
علاوة على نبوغ النّساء في تلك الفترة في العلوم الشرعيّة، فقد كنَّ إلى جانب ذلك نابغات بالأدب والشِّعر، مما جعل الأندلس تمتلئ شعراء وشاعرات، اللائي ساهمن في الحركة الأدبيّة ما لم يساهمه الرّجال، وقد شكّل نضوج الشاعرات ووفرتهنّ ملمحًا بارزًا من ملامح الشعر الأندلسي. ولم يقتصر الأمر على ذلك، إنّما كان لنساء الأندلس مساهمات فاعلة في الطب، والصيدلة والفلك، الحساب والتاريخ وعلم الكلام والغناء، وهذا دليل على عِظم المرأة ومشاركتها الفاعلة في المجتمع الأندلسي في حقبة طويلة من الزمن.
فقد سمح المجتمع الأندلسي للمرأة أن تمارس عددًا من الأنشطة الاجتماعيّة والثقافيّة والدينيّة، وأعطاها حريّة كبيرة، مما جعلها مختلفة عن مثيلتها من النساء في الشرق، فقد كانت المرأة الشّرقيّة أقلَّ عُرضة للرِّجال، بل كانت مستترة لا تراها عين رجل، ولم تحظَ بالعلوم التي حظيت به المرأة الأندلسيّة في تلك الفترة. بل بلغ تحرير المرأة الأندلسية ونفوذها حد العادة والعرف، بل حد الشّرع، فقد حظيت بنفوذ وسلطان، لم تحظاها المرأة على مرّ العصور، الأوروبيّة منها والشرقيّة، فقد بلغت سلطة المرأة في عصر المرابطين شأوًا عظيمًا، فقد كانت ندًا للرجل، تتمتع بالمساواة الكاملة، وتقتني أغلب الثروات.
ومن نفوذ المرأة المرابطيَّة أن نساء الأمراء والقوّاد تمتعنّ بنفوذ واسعة، فمن ذلك “زينب بنت اسحاق النفزاويّة” زوجة أمير المسلمين “يوسف بن تاشفين” كانت تتمتع بمكانة عظيمة وسلطة واسعة، وكان زوجها يُشركها في مختلف شؤون الدّولة، ويستمع لنصحها وإرشادها، فبلغ من نفوذها أن تعزل من رجال الدّولة من تريد. هذا وإن حظيت المرأة بهذه المكانة المرموقة في عصر من العصور، وواكبت كل علم، وأتيحت لها الحرية الكاملة، إلّا أن هذا أدى إلى أخطاء ومشكلات عويصة، بل فساد كبير في حكم المرابطين ومن بعدهم، فلم يقتصر الأمر على العزل والتفرّد بالحكم، بل استمر لبناء القصور المنيفة والمدن المسماة على أسمائهنّ، كالزهراء التي بناها عبد الرحمن النّاصر وغيرها من النفوذ والسلطة.
فإذا كانت سلطة النّساء قد بلغت هذا الحد من النفوذ على الملوك والأمراء والقادة، فما بالك بنساء العامّة؟ والمرأة الأندلسيّة سافرة الوجه، تبرز إلى مقابلة الرّجال دون حياء أو خجل، بل بلغ ذلك قصد الشعراء لهنّ، يلتمسون الشفاعات، بل يمدحون ويتغزلون ويناورون، بل يقصدون فيهنّ الحاجة والرذيلة، دون موانع ولا حواجز، فكثرت الغانيات والجواري، وكثرت دور الزّنا، حتى لحقت بلاد الأندلس كلّها.
مقولة القول، أنّه لا شك أنّ المرأة في أي عصر من العصور كانت تتمتع بمكانة وشأون عظيميْن أجليْن أشميْن، لكن الحدود على سطوتها، يجب أن تكون في كل مكان وفي كل مقال، فلا تُعطى المرأة المال والسلطان والشهوة واللذة دون حدود، ولا يُعطى ذلك للرجل أيضًا، والفتن عظيمة وكثيرة، لا تُحصى! وإنني أتساءل حقًا قبل النزوح إلى القراءة في المرأة الأندلسّية ودورها وعظيم شأنها في تلك الفترة، ما الّذي حدث حتى سقطت الأندلس، وهي التي بنت الحضارة والعِمارة والسؤدد والجاه والمال، بل صنعت الرّجال ونشرت الإسلام، وقامت بالحد اللامعقول في الانفتاح على المجتمعات والتكيّف معها على اختلاف أنواعهم وأجناسهم، مذاهبهم وديانتهم، أفكارهم وعقائدهم؟
سقطت الأندلس، بسقوط أهلها، نسائها ورجالها، عدلها وميزانها، قوتها وسطوتها، التي حالت عن الفتح الإسلاميّ، السلطان والملك والجاه
كيف لهذه الإمبراطورية العظيمة التي عاشت خمس مائة عام، أن تسقط في يوم وليلة، وتداركها الأمم والشعوب، وتتداعى عليها الأكلة، وتتقاسمها الملوك والسلاطين، على ضعفهم، وقلة حيلتهم، بل على انكسارهم أمام ملوك الأندلس، أمام نبغائها وشعّارها، فقهائها وأدبائها، رجالها ونسائها، الذين شهد لهم التاريخ قوة نزالهم، وصدى جأشهم وجبورتهم، بل قوّة إيمانهم وعظمة علمهم، أمام الغرب الذي تقدّم عليها بالعلوم والطب والفلك والجغرافيا وكل مناحي الحياة آلاف الأعوام.
لم تسقط هذه العظَمة، إلا بسبب الفساد، الفساد الذي كان على مستويات كثيرة أهمها الرجال وسلطانهم، والانتصار لأنفسهم، ومالهم وجاههم حتى تفرق وتفرد كل سلطانٍ لزمانه ومملكته وطائفته، ثم النساء وسطوتهنّ على الحكم، دون مشورة أو وعي لما قد يحدث من أزمة وتراجع وانحطاط، بنزوحها عن شرع الله، فأصبحت هميمة الرجال ومقصدهم، تلبي حاجتهم، وتنسى بتحريرها حدها وحجابها ومكان نفوذها.
فسقطت الأندلس، بسقوط أهلها، نسائها ورجالها، عدلها وميزانها، قوتها وسطوتها، التي حالت عن الفتح الإسلاميّ، السلطان والملك والجاه، فالله لا يغيّر قوانينهُ، فإن كانت دولة كافرة عادلة نصرها الله، وإن كانت دولة مسلمة فاسدة هزمها الله. فالحق أبلج والباطل لجج، وليس لأحد سلطان فوق سلطان الله، فهو على فتنته في اليد لا في القلب، في العين لا في النفس، في الدرك الأسفل، لا فوق الرأس. وإن حظيت المرأة بمكانة عظيمة، جعلتها تتنشق حرية الانفتاح، والتنوّر، لكن تحررها في دينها، لا بعدها عنه.
(المصدر: مدونات الجزيرة)