كيف صور القرآن الكريم امرأة فرعون المؤمنة؟
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
لم يصد امرأة فرعون طوفان الكفر الذي تعيش فيه في قصر فرعون عن طلب النجاة وحدها وقد تبرأت من قصر فرعون طالبة إلى ربها بيتاً في الجنة، وتبرأت من صلتها بفرعون فسألت ربها النجاة منه وتبرأت من عمله مخافة أن يلحقها منه شيء وتبرأت من قوم فرعون وهي تعيش معهم.
أبصرت آسية النور وأبصرت طريق الحق، وأبصرت طريقاً محفوفاً بالدماء والأشلاء ومع هذا قدرت أن تسير مهما كانت معالم هذا الطريق.
وحين علم فرعون بإيمانها تفانى في تعذيبها والتنكيل بها، فصبرت ثباتاً على مبدئها واحتساباً لأجرها على الله ورفضت كل المساومات واستعاذت بالله من الفتنة في الدين والتجأت إليه في وسط ضغط المجتمع، وضغط القصر، وضغط فرعون، وضغط الحاشية، والمقام الملوكي.
في وسط هذا كله رفعت رأسها إلى السماء واختارت جوار الله والدار الآخرة على العيش في البيئة الآسنة الفاسدة قائلة: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ ]التحريم:١١[.
يا الله: دعوة شاملة كاملة فيها مقاصد عديدة ومتطلبات كثيرة، بدأت فيها بلفظ رب، وذلك تمجيداً لله سبحانه، ثم طلبت أن يبني لها بيتاً، وقد حددت مكانه قبل أن تحدد وصفه ولم ترض بأي منزلة، ولم تقل عند نبيك موسى أو هارون، بل قالت عندك أنت، وهنا يدل على سمو النفس ورفعتها ثم ذكرت بعدها الجنة، قهي لم تطلب الدنيا وشهواتها بل طلبت الآخرة فخصّت فرعون لأنه هو أساس البلاء والفساد وبدأت بالخاص قبل العام، فقالت: فرعون، ثم عمله، ثم القوم الظالمين، فلله درّك ما أفهمك وما أعقلك، فاستجاب الله لها، وقبضها إليه، وبنى لها بيتاً في الجنة، وكان ثوابها عنده عظيماً ورفع مقامها في الدنيا والآخرة، وجعلها مثلاً خالداً في كتابه لعباده المؤمنين، فقال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ ]التحريم:١١[. (الدور التربوي للمرأة في قصة موسى، ص١٠٤)
لقد ضربت لنا آسية بنت مزاحم أروع الأمثلة في الولاء والبراء، فكانت أنموذجاً في الثبات وصلابة الإيمان، ولم تخشَ من سطوة زوجها، بل استعلت على كل هذه المغريات ووقفت أمامها بصلابة وتبرأت من فرعون وقومه، ووقفت وهي المرأة الضعيفة الخلقة، تتحدى فرعون أعتى أهل الأرض وأشدهم طغياناً، ومن سيرتها في القرآن الكريم نلاحظ أن الولاء والبراء صفة أولياء الله، فهو تعالى وليّهم وناصرهم ومغنيهم ومجيب دعوتهم.
ولقد كانت آسية بنت مزاحم رضي الله عنها قوية الإيمان، مطيعة لله ورسوله، سريعة الاستجابة للدين مبغضة لأهل الكفر والضلال كما كان ولاؤها لموسى عليه السلام وبراءتها من فرعون وعمله، وطلب النجاة منه، ومن عمله، ومن القوم الظالمين.
من خلال نموذج امرأة فرعون يثبت لنا القرآن الكريم أن المرأة وخلافاً لما أشيع عنها من أنها تمثل كائناً ضعيف الإرادة منقاداً للتأثيرات المختلفة، فمن الممكن أن تكون على العكس من ذلك، نظيرة للرجل، بل أحياناً أقوى في قوة الإرادة واستقلالية التفكير وعدم الخضوع لأي تأثير يتنافى مع قناعتها ورؤاها، بل والجهاد والكفاح وتحمل المصائب في سبيل القناعة الإيمانية ونورها الرباني.
فقد ناظرت ونافست في مجال الدعوة إلى الله وفعل الخير وحماية المستضعفين، وكانت تمتلك من القدرات والاستعدادات ما يجعلها تحكّم تفكيرها وعقلها فيما يعرض عليها من الأمور، ثم تختار الأصح والأصلح على ضوء ذلك التفكير، ومن ثم تجاهد وتصمد وتقاوم في طريق تلك القناعات. (تفسير القرآن العظيم، (٦/٢٣٣).
ملاحظة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: “موسى عليه السلام”، للدكتور علي الصلابي، واستفاد كثيراً من كتاب: “الدور التربوي للمرأة في قصة موسى عليه السلام”، جوهرة عبد العزيز.
المراجع:
- تفسير القرآن العظيم، عماد الدين ابن كثير.
- الدور التربوي للمرأة في قصة موسى، جوهرة عبد العزيز، ص٩٣.
- موسى عليه السلام عدو المستكبرين وقائد المستضعفين، علي محمد الصلابي.