مقالاتمقالات المنتدى

كيف جابه الرسول ﷺ موجات الصدّ والرفض في سبيل إيصال رسالته للعالمين

كيف جابه الرسول ﷺ موجات الصدّ والرفض في سبيل إيصال رسالته للعالمين

 

بقلم د. علي محمد الصّلابي (خاص بالمنتدى)

 

لم يفتر المشركون عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم  منذ أن أرسله الله للعالمين، وطيلة فترة دعوته السريّة، ثم إلى أن صدع بدعوته، إلى أن خرج من بين أظهرهم، وأظهره الله عليهم، ويدلُّ على ذلك – مبلغ هذا الأذى – تلك الآيات الكثيرة الَّتي كانت تتنزَّل عليه في هذه الفترة تأمره بالصَّبر، وتدلُّه على وسائله، وتنهاه عن الحزن، وتضرب له أمثلةً من واقع إخوانه المرسلين؛ مثل قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً ﴾ [المزمل: 10]، و ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 24]، و ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا  تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ [النمل: 70]، و ﴿مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [فصلت: 43].

أمثلةٌ تدلُّ على ما تعرَّض له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من الإيذاء:

1 – قال أبو جهل: هل يُعَفِّرُ محمدٌ وجهَه بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم. فقال: واللاَّتِ والعُزَّى! لئن رأيتُهُ يفعل ذلك؛ لأطأنَّ على رقبته، أو لأعفِّرَنَّ وجهه في التُّراب، قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم  وهو يصلِّي، زعم لِيَطَأ على رقبته، قال: فما فَجِئَهُمْ منه إلا وهو يَنْكُصُ على عقبيه ويتَّقي بيديه. قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إنَّ بيني وبينه لخندقاً من نارٍ، وهَولاً، وأجنحةً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : «لو دنا مني؛ لاختطفته الملائكة عضواً عضواً» [مسلم (2797)] .

وفي حديث ابن عباسٍ قال: «كان النَّبيُّ يُصلِّي، فجاء أبو جهل، فقال: ألم أنهَك عن هذا؟! ألم أنهك عن هذا؟ فانصرف النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ، فزبره، فقال أبو جهل: إنَّك لتعلم ما بها نادٍ أكثر منِّي، فأنزل الله تعالى: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ *سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ﴾ [العلق: 17 – 18] قال ابن عباس: لو دعا ناديه؛ لأخذته زبانية الله» [الترمذي (3349)] .

2 – وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم  قائمٌ يُصلِّي عند الكعبة، وجمع قريشٍ في مجالسهم؛ إذ قال قائلٌ منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي؟ أيُّكم يقوم إلى جزور ال فلان، فيَعْمِدُ إلى فَرْثِها، ودمها، وسلاها، فيجيءُ به، ثمَّ يمهله حتَّى إذا سجد؛ وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلـمَّا سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وضعه بين كتفيه، وثبت النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  ساجداً، فضحكوا حتَّى مال بعضهم إلى بعضٍ من الضَّحك، فانطلق مُنطِلقٌ إلى فاطمـةَ عليها السَّلامُ – وهي جُوَيرِيـةٌـ فأقبلت تسعى، وثبت النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  ساجداً حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسُبُّهم، فلـمَّا قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم  الصَّلاة، قال: اللَّهم عليك بقريش! اللَّهمَّ عليك بقريش! اللَّهُمَّ عليك بقريش! ثمَّ سَمَّى: اللَّهمَّ عليك بعمرو بن هشام، وعُتبةَ بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأميَّة بن خلف، وعقبة بن أبي مُعَيْطٍ، وعُمارةَ بن الوليد، قال ابن مسعودٍ: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدرٍ، ثمَّ سحبوا إلى القَلِيب – قليب بدرٍ – ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : وأُتْبِعَ أصحابُ القَلِيبِ لعنةً» [البخاري (520) ومسلم (1794)] .

وقد بيَّنت الرِّوآيات الصَّحيحة الأخرى: أنَّ الَّذي رمى الرَّفث عليه هو عقبة بن أبي مُعَيْطٍ، وأنَّ الَّذي حرَّضه هو أبو جهل [مسلم (1794)]، وأنَّ المشركين تأثَّروا بدعوة الرَّسول صلى الله عليه وسلم  عليهم، وشقَّ عليهم الأمر؛ لأنَّهم يرون أنَّ الدَّعوة بمكَّة مستجابةٌ. [السِّيرة النَّبويَّة الصَّحيحة، العمري ،1/149]

3 – اجتماع الملأ من قريش وضربهم الرَّسول صلى الله عليه وسلم  : اجتمع أشراف قريشٍ يوماً في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرَّجل قطُّ؛ سفَّهَ أحلامنا، وسبَّ الهتنا، لقد صبرنا منه على أمرٍ عظيم! فبينما هم في ذلك؛ إذ طلع عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فوثبوا وثبة رجلٍ واحدٍ، وأحاطوا به يقولون: أنت الَّذي تقول كذا وكذا – لما كان يقول من عيب الهتهم ودينهم – فيقول: «نعم، أنا الذي أقول ذلك»، ثمَّ أخذ رجلٌ منهم بمجمع ردائه؛ فقام أبو بكر رضي الله عنه دونه، وهو يبكي، ويقول: أتقتلون رجلاً أن يقول: ربِّيَ الله؟! [البخاري (3687 و3856 و4815) والبيهقي في دلائل النبوة (2/274)].

4 – كان أبو لهبٍ عمُّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  من أشدِّ النَّاس عداوةً له، وكذلك كانت امرأته أمُّ جميلٍ، من أشدِّ النَّاس عداوةً للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ فكانت تسعى بالإفساد بينه وبين النَّاس بالنَّميمة، وتضع الشَّوك في طريقه، والقذر على بابه، فلا عجب أن ينزل فيهم قول الله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ *مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ *سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ *وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ *فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴾ [المسد: 1 – 5]، فحين سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن؛ أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم  وهو جالسٌ عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصدِّيق، وفي يدها فهرٌ من حجارةٍ؛ فلـمَّا وقفت عليهما قالت: يا أبا بكر! أين صاحبك؟ فقد بلغني أنَّه يهجوني، والله لو وجدته؛ لضربت بهذا الفهر فاه! ثمَّ انصرفت؛ فقال أبو بكر: يا رسول الله! أما تراها رأتك؟ فقال: لقد أخذ الله ببصرها عنِّي، وكانت تنشد: مذمَّمٌ أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم  يفرح؛ لأن المشركين يسبُّون مذمَّماً يقول: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عنِّي شتم قريش، ولعنهم، يشتمون مذمَّماً ويلعنون مذمَّماً، وأنا محمَّد» [البخاري (3533)].

وقد بلغ من أمر أبي لهبٍ أنَّه كان يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم  في الأسواق، والمجامع، ومواسم الحج ويكذِّبه. [السِّيرة النَّبويَّة ، أبو شهبة ،1/293].

هذا بعض ما لاقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم  من أذيَّـة المشركين، وقد ختم المشركون أذاهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم  بمحاولة قتله في أوآخر المرحلة المكِّيَّـة، [السِّيرة النَّبوية الصَّحيحة، 1/153].

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم  يذكر ما لاقـاه من أذى قريشٍ قبل أن ينال الأذى أحداً من أتباعه، يقول: «لقد أُخِفْتُ في الله – عزَّ وجلَّ – وما يُخاف أحدٌ، ولقد أُوذيت في الله وما يؤذى أحدٌ، ولقد أتت عليَّ ثلاثون من بين يومٍ وليلـة، وما لي، ولا لبلالٍ طعامٌ يأكلـه ذو كبدٍ إلا شيءٌ يواريه إبط بلال» [الترمذي (2472) وابن ماجه (151)] .

ومع ما له صلى الله عليه وسلم  من عظيم القدر، ومنتهى الشَّرف، إلا أنَّه قد حظي من البلاء بالحمل الثَّقيل، والعناء الطَّويل، منذ أوَّل يومٍ صدع فيه بالدَّعوة، ولقد لقي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  من سفهاء قريش أذىً كثيراً، فكان إذا مرَّ على مجالسهم بمكَّة استهزؤوا به، وقالوا سآخرين: هذا ابن أبي كبشة، يُكلَّم من السَّماء! وكان أحدهم يمرُّ على الرَّسول صلى الله عليه وسلم  فيقول له سآخراً: أما كُلِّمْتَ اليوم من السَّماء؟!.

ولم يقتصر الأمر على مجرَّد السُّخرية، والاستهزاء، والإيذاء النَّفسيِّ، بل تعدَّاه إلى الإيذاء البدنيِّ، وحتَّى بعد هجرته – عليه السَّلام – إلى المدينة، لم تتوقف حدَّة الابتلاء والأذى، بل أخذت خطّاً جديداً، بظهور أعداءٍ جدد، فبعد أن كانت العداوة تكاد تكون مقصورة على قريش بمكَّة؛ صار له صلى الله عليه وسلم  أعداءٌ من المنافقين المجاورين بالمدينة، ومن اليهود، والفرس، والرُّوم، وأحلافهم، وبعد أن كان الأذى بمكَّة شتماً، وسخريةً، وحصاراً، وضرباً، صار مواجهةً عسكريَّة مسلَّحةً، حامية الوطيس، فيها كرٌّ، وفرٌّ، وضربٌ، وطعنٌ؛ فكان ذلك بلاءٌ في الأموال، والأنفس على السَّواء، [زاد اليقين ، أبو شنب ، ص 137].

وهكذا كانت فترة رسالته صلى الله عليه وسلم  وحياته، سلسلةً متَّصلةً من المحن، والابتلاء، فما وهن لما أصابه في سبيل الله، بل صبر، واحتسب حتَّى لقي ربَّه. [التمكين للأمَّة الإسلاميَّة، ص 243].

لقد واجه الرَّسول صلى الله عليه وسلم  من الفتن، والأذى، والمحن مالا يخطر على بالٍ، في مواقف متعـدِّدةٍ، وكان ذلك على قدر الرِّسالـة الَّتي حُمِّلهـا، ولذلـك استحق المقام المحمود، والمنزلـة الرَّفيعـة عند ربِّه، وقد صبر على ما أصابه؛ إشفاقاً على قومه أن يصيبهم مثلُ ما أصاب الأمم الماضية من العذاب؛ وليكون قدوةً للدُّعاة، والمصلحين، فإذا كان الاعتداء الأثيم قد نال رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يعد هناك أحدٌ أكبر من الابتلاء، والمحنة، وتلك سنّة الله في الدَّعوات؛ فعن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه قلت: يا رسول الله! أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: «الأنبياء، ثمُّ الأمثلُ فالأمثلُ، يُبْتَلَى الرَّجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً؛ اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقَّةٌ ابتُلي حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتَّى يتركه يمشي على الأرض، وما عليه خطيئة» [ابن ماجه (4024) عن أبي سعيد الخدري، ورواه الترمذي (2398)، وأحمد (1/172)، وابن ماجه (4023) عن سعد بن أبي وقاص].

 

 

ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: “السيرة النبوية”، للدكتور علي محمد الصلابي.

المراجع:

  • التَّاريخ الإسلاميُّ – مواقف وعبرٌ، د. عبد العزيز الحميديُّ، دار الدَّعوة – الإسكندريَّة، الطَّبعة الأولى، 1418 هـ 1997 م.
  • السِّيرة النَّبويَّة الصَّحيحة، د. أكرم العمري، الطَّبعة الأولى 1412هـ 1992م مكتبة المعارف والحِكَم بالمدينة المنوَّرة.
  • صحيح السِّيرة النَّبويَّة، إبراهيم العلي، دار النفائس، الطَّبعة الثَّالثة، 1408هـ 1998م.
  • زاد اليقين للاشين أبو شنب، دار البشير، طنطا – مصر، الطَّبعة الأولى، 1413 هـ 1993م. التَّمكين للأمَّة الإسلاميَّة في ضوء القرآن الكريم، لمحمَّد السيد حمد يوسف، دار السَّلام – مصر، الطَّبعة الأولى 1418هـ  1997م.
  • محنة المسلمين في العهد المكِّيِّ، د. سليمان السّويكت، مكتبة التَّوبة – الرِّياض، الطَّبعة الأولى، 1412 هـ 1992 م.
  • السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2004م.

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى