كيف تمارس العبودية وتحتفظ بقناع الحرية؟
بقلم محمد القدوسي
الإجابة المثلى على هذا السؤال هي التبرير للطغاة بمنطق “لا تثريب عليكم” وإن اضطررت للإقرار بجرم ارتكبوه فسمه “خطأ”، مجرد “خطأ”. وفى المقابل عليك أن تحاسب دعاة الحرية على “النقير والقطمير” بمنطق “إنهم مسؤولون”. وهكذا تبرر وتمرر جرائم الطغاة، مؤكدا أنه لا يحق لأحد محاسبتهم عليها، وإن كانت قد ألحقت الدمار بالبشرية كلها. وتحول أخطاء الأحرار، مهما صغرت، إلى جرائم يملك كل “عابر سبيل” أن يحاسبهم عليها، مع أن أحدا غيرهم لم يدفع ثمنها ويتحمل تبعتها.
وهو صنف من “التدليس” أصبح هواء تنفسه الناس حتى ألفوه، وقديما قالوا “كثرة المساس تزيل الإحساس”، فلم يعد أحد ينتبه إلى هذا الغش، فضلا عن أن يأنف منه، فضلا عن أن يفضحه في نفسه أولا قبل أن يكشفه عند الآخرين.
ولعلك تريد مثالا، مع أن الأمثلة تحاصرك أينما وليت وجهك، لكن لا بأس:
بمناسبة نشر كلمة مسجلة للأستاذ “سيد قطب” ألقاها في نحو 20 من سبتمبر 1952، يحذر فيها من التهاون مع الطغيان (وكان طغيان عسكر يوليو قد بدأ يطل برأسه) كتبت أقول:
وصاحب الظلال والمعالم هو سيد قطب إبراهيم حسين الشاذلى (9 من أكتوبر 1906م – 29 من أغسطس 1966م) شاعر وأديب ومفكر.
ولد فى قرية موشا بمحافظة أسيوط حيث تلقى تعليمه الأولى وحفظ القرآن الكريم ثم التحق بمدرسة المعلمين فى القاهرة ونال شهادتها والتحق بدار العلوم وتخرج عام 1352 هـ – 1933 م. ليعمل بوزارة المعارف فى وظائف تربوية وإدارية، وابتعثته الوزارة إلى أمريكا لمدة عامين وعاد عام 1370 هـ – 1950 م. انضم إلى حزب الوفد المصري لسنوات وتركه بعد خلاف فى عام 1361 هـ – 1942 م. وفى 1370 هـ – 1950 م انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، وخاض معها المرحلة التى بدأت منذ العام 1954 م إلى العام 1966 م، عندما اعتقله “جمال عبد الناصر” للمرة الثانية بتهمة التآمر على نظام الحكم، وأعدم في هذا العام، بناء على حكم أصدره الفريق الدجوى، الذى سبق أن تحدث فى راديو تل أبيب، وهو أسير، مشيدا بجيش الاحتلال، بينما رفض سيد قطب أن يكتب خطاب اعتذار لعبد الناصر مقابل الإفراج عنه، قائلا: إن السبابة التى تشهد لله بالتوحيد لا يمكن أن تمسك القلم لتعتذر للباطل عن الحق. وقد أصر جمال عبد الناصر على إعدام سيد قطب رافضا وساطات متعددة من ساسة عرب، رغم أن عبد الناصر نفسه هو من كان يسمى سيد قطب “جان جاك روسو الثورة المصرية” وهو من وقف ـ قبل سنوات قلائل ـ يخاطبه بـ”الأستاذ سيد” ويعاهده أنه ومجلسه العسكرى سيظلون أوفياء لمبادئه وأفكاره.
ولأن “العسكر آلة قتل” فقد عبروا عن وفائهم بالعهد ـ أو بالغدر ـ بحبل المشنقة. رحم الله سيد قطب الذى لا يعرف الكثيرون أنه كان أيضا روائيا مجيدا، وأن روايته “المدينة المسحورة أو الليلة الثانية بعد الألف” تنطوى على رؤية عميقة لحكم العسكر، وهى رؤية مبكرة أيضا، إذ صدرت الطبعة الأولى من الرواية فى نهاية الأربعينيات. كما كان سيد قطب ناقدا أدبيا فذا، وحسبك أنه هو من قدم عميد الرواية العربية “نجيب محفوظ” للجمهور، وقد ظل “محفوظ” وفيا لما قدمه له سيد قطب حتى مات، وإن كان قد استلهم شخصيته فى “المرايا” منتقدا بعض ما يختلف فيه معه، فقد استلهمها فى جانب من شخصية “كمال أحمد عبد الجواد” بطل الثلاثية، العمل الأكثر شهرة لمحفوظ، بينما كان الجانب الآخر من الشخصية مستلهما من “نجيب محفوظ” نفسه.
هذا ما كتبته، فرد أحدهم وكأنه جاء بالمسكتة التي تقطع قول كل خطيب: ومن إذا كتب مقال حركات لا تخيفنا ، واستجدى العسكر ألا يعودوا لثكناتهم لاستكمال إنجازاتهم ، ومن قال لا بد من استبعاد الجماهير من معادلة العمل السياسى، ومن قال من مصلحة الجميع أن يظل الزمام فى أيدى قوّة نظاميّة طاهرة نظيفة كأبطال ثورتنا المجيدة، ومن مصلحة الحمقى ألاّ يقفوا فى طريق هذه القوة النظاميّة فهى أقوى ممّا يظنون، وهى ستسحقهم سحقا. إن طريقة القوة المنظمة أسلم من طريقة الجماهير ، ومن حرض على قتل خميس والبقرى فى كفر الدوار؟
فأجبت القائل:
هو الأستاذ سيد قطب وكان مخطئا فى تقديره للعسكر، إذ كانت التجربة الأولى، وكان مدفوعا بالحماسة للتغيير مع كل (كل بالكاف واللام) المفكرين الكبار والقوى السياسية، ومنهم الحزب الشيوعى المصرى الذى أعلن حل نفسه لأن “ثورة يوليو ستحقق الأحلام” ومفكره الكبير الأستاذ “شهدى عطية الشافعى” الذى اندفع يؤيد يوليو بكل قوة. حتى إذا ظهرت حقيقة العسكر صحح الكثيرون مواقفهم، وهو تصحيح كان مرتبطا بالحكمة والشجاعة والاستقامة (يكون أسرع وأوضح لمن توافرت فيه هذه الصفات) وكان الأستاذ سيد قطب من أول المصححين، بدليل كلمته هذه وراجع تاريخها (20 وربما 21 من سبتمبر 1952) وكان الأستاذ شهدى عطية ممن صححوا مواقفهم أيضا، فقتله عبد الناصر، واعتقل الأستاذ سيد قطب، ثم اعتقله ثانية وقتله. وكلاهما علم لا يبارى فى مجاله، وقامة فكرية، لو جاء مثلهما كل 100 سنة لكانت البشرية أسعد حالا، بقدر ما أنها ستكون أسعد حالا لو تخلصت من 100 من الطغاة كل يوم. هذا فى تقديرى هو السياق القويم لقراءة المشهد، أخيرا يبقى السؤال: هب أن هناك سياقا آخر، فهل يستحق ما أشرت إليه أن يعاقب الرجل بالإعدام؟ وماذا عن عبد الناصر نفسه الذى قتل خميس والبقرى اللذين أشرت إليهما، ومئات غيرهما، واعتقل وعذب حتى رفاق السلاح من الضباط الأحرار، ومنهم حسنى الدمنهورى ويوسف صديق (البطل الحقيقى الذى أنقذ حراك يوليو من الفشل). وأرسل ضباطه للتدريب على التعذيب فى أمريكا التى كان يهاجمها فى خطبه، وجعل الطغيان منهجا علنيا حتى أنه أثناء أزمة مارس 1954 قال لأعضاء مجلس الوزراء «كل ما أطلبه منكم أن تعطونى حق التصرف من دون الرجوع إليكم» فتصور أى حكم هذا؟ يا أستاذ لا تبرر للطغيان، ولا تربط مفكرا إنسانيا عظيما كسيد قطب بموقف واحد سرعان ما عبره، بل زنه بميزان حياته كلها، وسل نفسك: لماذا يصر “فى ظلال القرآن” على الاحتفاظ بمكانته بين الكتب الأكثر قراءة وتداولا؟ وأين ذهب كل ما كتبه قاتله وروج له؟ “فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض”.
(المصدر: رسالة بوست)