بقلم خالد بن سعود البليهد – صيد الفوائد |
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد فإن علم الفقه في الدين ومعرفة الحلال والحرام والتبصر في أحكام الشريعة من أشرف العلوم التي تقوم عليها مصالح العباد والبلاد وتنتظم أمور معاشهم به وبه يتبصر العبد بعبادة ربه في سائر أبواب الدين ويفقه دين الله في كل صغير وكبير مما شرعه الله على غير ذلك من المزايا والفضائل التي تنتج عن علم الفقه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين). متفق عليه. قبل البدء في تبيين طرق تحصيل الفقه والرسوخ فيه لا بد للطالب أن يكون فقيه النفس له ملكة عقلية وقدرة ذاتية على فهم المسائل وإدراكها والتفريع عليها والقدرة على الاستنتاج والتحليل ويتأكد بوجود هذه الصفة عن طريق القياس بالتجربة بنفسه واختبار الشيخ له فإن كان موصوفا بها اشتغل بالفقه وإن كان لا يتصف بها ليس عنده عقل وافر ولا ذكاء فلا يضيع وقته ولا يستهلك شبابه في أمر لا طائل فيه ولينصرف عن طلب الفقه ويشتغل بأمر آخر أنفع له. بداية لا يكون الرجل فقيها ربانيا إلا إذا أخلص قصده لله وتجرد عن حظوط الدنيا ولم يكن همه الرئاسة والجاه ولا طلب الدنيا فإن ذلك له تأثير عجيب في معرفة الحق وإصابته فإن خالط ذلك قصده أفسد دينه ولم يكن فقيها وإن أكثر النقول والفوائد أما إن علت إرادته وسمت نيته إلى الدار الآخرة وتمحض قصده لإعلاء كلمة الله فتح عليه وكان فقيها وإن قل علمه ونقله. يلزم طالب الفقه أن يكون له عناية فائقة بمعرفة الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وأن يكون مستظهرا لمعانيها عارفا بمواطنها ولا يشترط حفظها وإن حفظ بعض الأصول من أدلة الأحكام كان أكمل وأتقن ككتاب عمدة الأحكام والمحرر وبلوغ المرام والأحسن أن يطالع كتب السنة لا سيما الصحيحين وسنن أبي داود. ويجب التنبه إلى أن أدلة المسائل الفقهية ليست منحصرة في الآيات والأحاديث الصحيحة وإن كانت هي الأصول وإنما الأدلة متنوعة ما بين آية وحديث وقياس واستصحاب وأثر لصحابي وقاعدة فقهية وإجماع وغير ذلك مما اعتد به الفقهاء وكثير من المسائل الفقهية مبناها على أحاديث مروية في السنن متكلم في أسانيدها لكن قد يعضدها فتاوى الصحابة أو القياس أو ظاهر القرآن أو الأصول العامة ويشتهر القول بها ويجرى العمل عليها فينبغي على طالب الفقه أن يكون متصورا لحقيقة الأدلة ومراتبها وعارفا لمنهج الفقهاء في استعمال الأدلة. وينبغي له أن يكون ملما بمهمات علوم الآلات كعلم العربية والأصول والمقاصد الشرعية لأنها تعينه في فهم النصوص الشرعية ومعرفة كلام الفقهاء وطريقة استدلالهم وحججهم ويكتفي بتأصيل هذه العلوم ولا يفني عمره ويضيع شبابه في تفاصيل ودقائق هذه العلوم لأنها من كماليات العلم ولا طائل كبير ورائها ولا يترتب عليها أثر في تطبيقات الفقه والتوسع في الآلات يصرف عن الغايات. ثم عليه أن يعكف على متون الفقهاء المدونة على الأبواب فإن سلوك هذه الطريقة في الفقه يختصر عليه وقتا كبيرا في إتقان الفقه ويضبط له الأبواب ويتقن له المسائل والمآخذ لأن الفقهاء رحمهم الله بذلوا جهودا عظيمة في تصنيف الأبواب وتقريب الفقه وتقسيمه على الكتب والأبواب وجمع الأدلة بأنواعها في مظانها ووضع الاصطلاحات والتقاسيم والضوابط والتعريفات عبر قرون طويلة حتى صار علم الفقه ناضجا وكل هذه المزايا وغيرها تتعذر في سلوك طريقة غيرها ولا يمكن للرجل أن يكون فقيها متمكنا في أبواب الفقه متقنا لأصول المسائل وفروعها إلا إذا سلك طريقة الفقهاء التي أجمعوا على لزومها وتتابع أئمة الفقه عليها وظهر فضلها ونتائجها الحسنة. أما الإعراض عن مدرسة الفقهاء وذمها بالجملة وعدم التفقه بها وصرف الطلاب عنها واطراح أقوالهم فهذا يدل على ضعف البصيرة في العلم واضطراب الأصول وعدم لزوم الحكمة. وينبغي له أن يسلك مدرسة فقية معينة يلتزم بأصولها وقواعدها ومن خلالها ينطلق في تقرير المسائل وتخريجها وضبطها حتى يسلك جادة واضحة في الفقه والأحسن أن يلزم المذهب السائد عند علماء بلده إلا أن تكون أصوله ضعيفة في اتباع السنة فيختار مذهبا من مدرسة فقهاء أهل الحديث أما إذا لم يلتزم مدرسة معينة ولم يأخذ بأصول إمام معتبر وأكثر من التنقل بين المذاهب أو سلك فقها منتخبا ملفقا بين المذاهب والأئمة صار عنده اضطراب ظاهر في الأصول وتردد في تقرير المسائل وضبطها ووقع له أوهام كثيرة في أبواب العلم كما هو مشاهد من بعض الطلبة اليوم. وعليه أن يحذر من النظر في المذهب الظاهري والتأثر به لأن أصوله ضعيفه ومخالف لمدرسة فقهاء الحديث وقد ذمه المحققون من أهل العلم لما فيه من إهمال القواعد والمعاني والخروج عن جادة السلف في التفقه. ومن أهم ما يتقن به الفقه التدرج في أخذ المتون فيبتدأ المتفقه بالمختصرات ثم المتوسطات ثم المطولات ولا يقفز مباشرة إلى كبار المسائل لأن مداركه في العلم وتأصيله ضعيف فيتقن بداية المسائل بأدلتها في المتن المختصر ثم يتلقى زوائد المسائل وتفاصيلها في المتن المتوسط ثم يتوسع في المطولات. ويتأكد على المتفقه أثناء تأصيل المذهب تلقي المسائل على وجه القبول والتسليم وعدم المناقشة وإطالة البحث لأنه لا يملك آلة للتمييز ولأن مناقشة الشيخ والاعتراض عليه وإطالة البحث معه يفسد التأصيل ويشوش الذهن ويفقد المتن مكانته فيزهد الطالب فيه ومن أكثر النقاش والاعتراض على الشيخ لم يكن فقيها وكانت أصوله في العلم ضعيفة وابتلي بكثرة التنقل بين المذاهب. وينبغي على المتفقه أول الطلب أن يلزم الصمت في درس الفقه ويحسن سمعه مع التركيز ويكون أذنا صاغية للشيخ ولا يكن همه المبادرة بالسؤال ويكون صمته أكثر من كلامه حتى يشتد عوده وكلما زاد علمه زاد سؤاله فإن آفة العلم سوء السمع والعجلة في تلقي العلم الذي ينتج عنه قلة تصور المسائل وكثرة الأوهام وتلفيق الأحكام وهذا يفسد الفقه ويضعف المتفقه. وليحذر المتفقه المبتدئ أشد الحذر من النظر في المطولات والخلافيات قبل تمكنه في العلم فإن ذلك يشتت عليه الذهن ويورد عليه الإشكالات ويوقعه في الاشتباه في المسائل والأحكام وهذا عارض خطير من ابتلي به أول الطلب لم يسلم علمه من الفساد ولم يتحقق له الرسوخ في العلم وتصير حاله كحال من رمى نفسه في لجة البحر وهو لا يحسن السباحة والغوص فمآله الغرق. ويجب التنبيه على أمر خطير شائع عند كثير من المتفقهة أن يكون الهم الأكبر للمتفقه الفراغ من الكتاب وختمه بأسرع وقت ممكن فيمر على المسائل مرور الكرام ويحفظ الأدلة على عجالة وربما أنهى كتبا كثيرة في الفقه ولكن لا يظهر في المذاكرة والمناقشة أنه أتقن هذا العلم وأنه أصل مسائل الفقه أو عنده قدرة على تصوير المسائل وإدراك الفروق والضوابط والمآخذ لأن قرائته للفقه وأخذه للكتب لم تكن قراءة درس وتحقق وإنما أشبه ما تكون قرائة مطالعة كالنظر في كتب السير والفضائل فمن أراد أن يتحقق فقهه فليدرس المسائل ويتقنها إتقانا شديدا بفهمها وتحليلها ومعرفة مأخذها وتصويرها والتمثيل عليها والجواب عن المشكل فيها ومناقشة دليلها ولا يتجاوز متنا حتى يتقنه ولو طال زمانه وغير ذلك مما يحقق التأصيل والرسوخ في الفقه وهذا يتطلب إقبال المتفقه وزمان طويل وشيخ له خبرة ودربة بهذا العلم يحسن التعليل والتدليل وتصوير المسائل. وينبغي على المتفقه أن يعلم أن المسائل الفقهية ليست على درجة واحدة في الظهور والوضوح في الدليل والمأخذ بل على درجات ثلاث مسائل الاستدلال عليها ظاهر وقوي واستنباطها جلي والغالب أنها متفق عليها أو عليها قول العامة أو الأكثر وهذا لا إشكال فيها ولا يطيل فيها الطالب ومسائل متوسطة في قوة الاستدلال والمأخذ ويتطرق إليها الاحتمال وهذه جمهور مسائل الخلاف بين الفقهاء وهذه تستحق الوقوف عليها والتأمل فيها والمناقشة في دلائلها ومسائل خفية في الدليل والمأخذ وفيها إشكال في الظاهر وهي مسائل قليلة بالنسبة لغيرها والغالب أنها مبنية على آثار الصحابة والقياس الخفي والاستصحاب والقواعد العامة ولم يرد فيها دليل خاص فهذه أيضا يبذل فيها الطالب جهدا كبيرا والغالب أن المتفقه المبتدئ لا يستطيع فهم هذه المسائل لأن مداركه العلمية ضعيفة فلا يسعه من الناحية التطبيقية إلا حفظها وضبطها وإذا نضج في العلم تيسر له إدراكها وفهم مأخذها وصحة الاستدلال لها. ويستحسن للمتفقه بعد إتقانه للمذهب أن يعتني بإجماعات الفقهاء وقول الأكثر والجادة المشهورة عند الفقهاء في أصول المسائل لأن ذلك يتقن له الفقه ويضبطه ويختصر عليه الوقت ويجعل عنده ملكة في تمييز المسائل ومعرفة درجاتها ويمنحه قوة في الترجيح وتمييز الأقوال الشاذة. ولا ينبغي للمتفقه أن يبني فقهه على البحوث الفقهية والمسائل على انفراد دون دراسة الباب ومسائله وضوابطه عن طريق أصول الفقهاء فإن هذه الطريقة قاصرة ولا تعطي الطالب تصورا كاملا للمسئلة ولا توقفه على المآخذ والعلل التي استعملها الفقهاء وتوقعه غالبا في الأوهام والأغلاط. وليكن على حذر من سلوك مسلك الشذوذ الفقهي وتتبع الآراء الغريبة التي هجرها الفقهاء وإن كان الظاهر يعضدها لأول وهلة فينبغي عليه التأكذ قبل الاختيار والاستحسان لمذهب من موافقته لجادة الفقهاء وكونه معمولا به جاريا على الأصول المعتبرة محفزظ نسبته لإمام معتبر , وعليه ألا يغتر بالآراء المنقولة عن بعض فقهاء التابعين مما اندثر القول بها وطوى التاريخ ذكرها , وأقبح من ذلك أن يحدث قولا جديدا ليس له سلف معتبر وقد أنكر أئمة السلف هذين المسلكين إنكار شديدا. ولا يحسن بالمتفقه أن يتكلف ويعنى بفوائد ولطائف وآراء الفقهاء المتأخرين لا سيما المعاصرين ويبذل قصارى جهده في جمع ذلك وحفظه ويجعله منتهى علمه لأن ذلك لا طائل ورائه ولا يحقق له ملكة فقهية بل عليه أن يصرف وقته ويبذل جهده وفكره في تحقيق المسائل والإحاطة بكلام الفقهاء المتقدمين ومعرفة مآخذهم وطريقة استدلالهم فإن هذا هو الفقه حقا ولا يوفق إليه كل أحد. ومن الأصول المهمة في باب التفقه التي ينبغي على المتفقه الاعتناء به حصر المسائل المشكلة في الأبواب الفقهية والأصول الغريبة المخالفة للقواعد العامة التي استشكلها الفقهاء ومداومة النظر فيها ومحاولة الجواب عنها ومدارسة أهل العلم والأقران فيها فإن هذا باب مهم من أتقنه كان على حظ عظيم من الفقه قل من يعتني به ومما يعين على فهم المسألة المشكلة كثرة الاستغفار وإلحاح الدعاء وصدق التوجه للعليم الحكيم والانقطاع للتأمل فيها وتفريغ الخاطر من شغل الدنيا قال ابن تيمية: (إنه ليقف خاطري في المسألة والشيء أو الحالة فأستغفر الله ألف مرة أو أكثر أو أقل حتى ينشرح الصدر وينحل إشكال ما أشكل). وإذا أتقن المتفقه مذهبا فقهيا معتبرا وضبط أصوله وأحاط بمسائله وصار له دربة في الاستدلال والتحقيق ومعرفة حسنة بجمهور الأدلة انتقل بعد ذلك إلى النظر في فقه الخلاف بين المذاهب الأربعة وتعرف على حججهم ودلالئهم وأصولهم وتوسع في هذا الباب حتى يتحقق له أهلية وقدرة على الاختيار ومعرفة القول الراجح وتقديمه على المرجوح وهذا لا يحصل غالبا إلا بعد زمان طويل وفهم صحيح وشيخ يغوص في المعاني. وأخيرا إن الفقه في الأحكام موهبة ورزق يمنحه الله من شاء من عباده ويمنعه ممن شاء من عباده وقد يفتح على المتفقه في باب معين أو في سائر الأبواب وقد يكون متقنا للمذهب وقد يكون مجتهدا في المذهب وقد تعلو درجته ويكون مجتهدا بين المذاهب والحاصل أن الفقهاء تتباين مراتبهم ومستوى إتقانهم وكل ذلك منحة ربانية وتوفيق إلهي والموفق من وفقه الله والمحروم من حرمه الله. |
651 7 دقائق