كيف تعبر الشورى عن العدل؟
بقلم د. سعيد اسماعيل علي
لا يتجلى العدل فقط في حكم يصدر من قاض ليفصل فى خصومة بين أطرفين أو عدة أطراف، ، فهو في جوهره ومبتغاه يعنى الإنصاف والاستقامة والالتزام بالحق، ومعاداة كل صور القهر والبغي والتعسف والطغيان والاستبداد، أيا كان المجال، وأيا كان المعنيون، وكل ما ينفع الناس، ويعزز من شأن الجماعة البشرية، ويسعى وراء أمراضها محاربا، مطاردا..
ومن هنا لا ينبغي، عند البحث عن العدل في القرآن الكريم، التوقف عند نص الكلمة، ولا حتى مرادفاتها مثل” القسط”، وإنما تتبع الكثير من الكلمات والمفاهيم التي تنطق بهذا المضمون أو ذاك مما يقيم أمر العدل والإنصاف بين الناس بعضهم بعضا، وبين الإنسان ونفسه، حيث يساعد هذا على الوقوف راسخا للعامل على العدل والمحارب في سبيله..
ومن هنا كانت الشورى من عائلة العدل القرآني:
فالمشاورة: تعنى ما نعبر عنه في أيامنا المعاصرة (الحوار).. تبادل الرأي والفكر بين اثنين أو أكثر، وفقا لقاعدة فطرية ومنطقية تقول بأن أحدا لا يملك وحده الحقيقة، ولا البصر بكل جوانبها، ولكل منا مصالحه ورؤاه، وتحيزاته، وفقا لجملة ما مر به من خبرات، عملية وفكرية، وما له من مصالح، وما يسعى وراءه من منافع، مما يشير إلى أن كلا منا- في الغالب إنما يرى زاوية من الحقيقة، أو قدرا من الحق، ومن يدرى ، فلربما خفيت عنه بعض الجوانب لظروف متعددة، فيجئ الرأي الآخر ليكمل، أو يصحح، أو ينفى، فنكون بذلك عند أقرب نقطة من الحقيقة التي لا يعلمها كاملة إلا الله سبحانه وتعالى.
من هنا أصبح التشاور مظهرا من مظاهر العدل، ويكون الانفراد بالرأى ، على العكس من ذلك، هو مظهر من مظاهر القهر والاستبداد.
ومن هنا ترى في مجالات العدل في الفضاء المجتمعي العام، تنويعا في قنوات التحقيق والمساءلة، والمحاسبة، ودرجات مختلفة من التقاضي..كل ذلك، توسيعا لدائرة التشاور، ومدا لجسور البصر والبصيرة، فنكون بذلك عند أقرب نقطة ممكنة من العدل.
ومن هنا نشعر بقدر غير محدود بالرضا والسعادة والفخر، عندما نجده سبحانه وتعالى يُفرد سورة كاملة بعنوان الشورى، تقديرا لها وإرساء لأبرز مبادئ العدل والإنصاف، سواء على مستوى الحكم، في نظام الدول، أو في مجال المحاسبة القضائية، أو في مجال المعاملات بين الناس، ومن ثم يجئ الأمر بالشورى في قوله تعالى في سورة آل عمران: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)).
ففي هذه الآية نجد “مجمعا” من الفضائل والقيم التي تترابط في وحدة فكرية وأخلاقية وإدارية، بالغة الدقة والروعة، فغلظة القلب، تقيم سدا بين الفرد وغيره، مما يسد الباب أمام التشاور، وبالتالي تفتحه لشيطان الانفراد بالرأي والاستبداد، فكان من حسن سياسة الناس، والأمور، النهج وفق منهج “العفو”، في حدود ما يجب من ضوابط بطبيعة الحال، حتى لا يكون تسيب وتفكك، وتبادل الرأي والتحاور، بعيدا عن ضغوط الغلظة، واستخدام أساليب التعسف والإرغام ، من شأنه أن يفتح الطريق الصحيح نحو تبادل الرأي، ومن ثم الاقتراب إلى أقرب نقطة من الحقيقة، وهذا من أبرز السبل لتأليف القلوب، وتأليف القلوب بدوره، هو أقصر الطرق نحو التضافر والتعاون ، وإفراغ الجهد فيما يجب ، للوصول إلى الحق والعدل.
وقد تؤدى ظروف الحياة الخاصة بين الزوجين إلى أن يكون الانفصال ، أمرا محتما، كما قد يراه أحد الطرفين أو كلاهما، ورغم ما هو مقرر من قيامة للرجل، لكن، فى هذه الحالة، حالة العلاقة الزوجية، لابد من المحاورة، ولا يستحب أن يصدر القرار من الرجل فرديا، فيكون هناك تشاور، كما جاء فى سورة البقرة: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا … (233)).
وفى سورة الشورى، يشير سبحانه وتعالى إلى جملة خصال مما يتصف بها المؤمن الصادق، الساعي إلى خير الناس، ومن قبل لإقامة الدين على أسس العدل والإنصاف، فيكون من جملة هذه الخصال، أن يُغَلّبوا مبدأ الشورى فيما يجرى بينهم من معاملات، فيقول: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38))، ولعمرى، كما هو أمر لافت للنظر، مثير للتقدير والإعجاب، موجب للتنفيذ، أن تصطف الشورى، مع إقامة الصلاة، والاستجابة لله رب العالمين..
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)