بقلم الدكتور فتحي ابو الورد
في تاريخ الأمم يحتاج اللاحق إلى مواصلة جهود وأعمال المؤسسين، لتستمر دولتهم قوية مهيبة الجانب، فإذا ما ضيع اللاحق جهود السابق، ولم يطور ولم يستن بسنته زالت الأمجاد، وانهارت الإمبراطوريات، وحل الذل والخراب.
يقول ول ديورانت مؤلف كتاب “قصة الحضارة”: إن الإمبراطوريات بطبيعة تكوينها سريعة الانحلال، وإن الذين يرثونها تعوزهم جهود الذين ينشئونها.
وقد قامت للمسلمين إمبراطوريات عظيمة عبر التاريخ، بني اللاحق فيها على تاريخ السابق؛ فأكمل وطور واشتدت قوته، وامتد سلطانه، حتى خاطب الخليفة العباسي هارون الرشيد يوما السحابة بقوله: أيتها السحابة العابرة شرقي أو غربي.. أمطري حيث شئت؛ فإن خراجك سيحمل إلينا. وكان هذا دلالة على امتداد واتساع رقعة الدولة الإسلامية.
ومما ينهض بالأمة ويحافظ على قوتها وهيبتها، أن تأخذ بأسباب القوة جميعها، وأن تستعد لعدوها عملا بالحكمة الحربية التي تقول: الاستعداد للحرب يمنع وقوع الحرب، وأن تعظم الأخلاق كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ولسقوط الدول أسباب تكاد تكون واحدة، لخصها ول ديورانت في حديثه عن سقوط دولة فارس سابقا بقوله: يكاد اضمحلال فارس أن يكون في جملته وتفاصيله صورة معجلة من سقوط روما؛ فقد اقترن فيه عنف الأباطرة وإهمالهم، بفساد أخلاق الشعب وانحلالهم، وحل بالفرس ما حل بمن قبلهم، إذ استحال ما كانوا يتصفون به من تقشف وزهد منذ أجيال قليلة إلى استمتاع طليق، وأصبح أكبر ما تهتم به الطبقات الأرستقراطية ملء بطونها بلذيذ المأكل والمشرب؛ وشرع هؤلاء الرجال الذين فرضوا على أنفسهم من قبل ألا يتناولوا إلا وجبة واحدة من الطعام في اليوم يفسرون معنى الوجبة الواحدة بأنها وجبة تمتد من الظهر إلى غسق الليل، فامتلأت مخازن مؤنهم بكل ما لذ وطاب، وملئوا بطونهم باللحوم السمينة النادرة، وغُصّت بيوت الأثرياء بالخدم الفاسدين المفسدين، وأصبح السُّكْر الرذيلة الشائعة بين كل الطبقات. وهذا حال أمتنا فى طور من أطوارها.
ودورات التاريخ تقضى بأن لكل شيء إذا ما تم نقصان، وسنة الله في كونه تقضى بأن: “لكل أمة أجل “.
ومن الغفلة أن ننظر اليوم ببلاهة إلى أمم سبقتنا وفاقتنا ولا نفكر في العمل على إحياء أمجادنا، ونهضة أمتنا، والأخذ بسنن الله في كونه لتشييد حضارتنا، وكأن الحضارة وأسباب القوة والمنعة أصبحت حكرا على الأعداء، وغدونا لا نفكر في الدفاع عن أنفسنا ومقدساتنا، وهمًا منا أن القوى العظمى ستحمينا، وتمنحنا صك أمان، رغم قيام البراهين على أنها تبيعنا لغيرنا، حتى وصل العجز بنا أن يستأسد علينا العدو فيأخذ قرار الهجوم، ولا نستطيع نحن أن نأخذ قرار الدفاع، ذلكم لأن القوى العظمى حرمت علينا أن نستنصر بأهلنا، وحالت بيننا وبين الاستغاثة بما بين أيدينا.
لم تتعود الأمة التي نزل فيها قوله تعالى “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم” خوض المعارك، ولا نزال الأعادي، ولا الاستعداد لمقارعة الخطوب، ولا تحديث النفس بالجهاد، وإن كان ذلك أول أسباب النهوض حتى تمتلك قرارها وسيادتها، وتسلك طريقها نحو الحضارة.
وقد كان من تربية النبى صلى الله عليه وسلم للأمة أن “من مات ولم يغز ، ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق”
وإن تربية الأمة على الدفاع عن نفسها ومقدساتها فى عصرنا ينبغى أن تكون تربية شاملة للكبار والصغار والرجال والنساء ، حتى تصبح الحياة والموت فى سبيل الله سواء لدى الأجيال، وقديما قال المتنبى:
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا *** فأيسر ما يمر به الوحولُ
(موقع الأمة)