كيف أطاحت غزة بأعتى قادة العدو؟!
بقلم أحمد سمير قنيطة “كاتب ومدون فلسطيني”
مستمرةٌ هي التداعيات الكبيرة المترتبة على العملية الأمنية التي نفذها جيش الاحتلال شرق خانيونس، فلم يكد المجتمع الصهيوني يصحو من صدمة انهيار حكومته بعد استقالة وزير حربه “أفيغدور ليبرمان” وحزبه من الحكومة، وهو الذي كان قد وعدهم بتصفية قادة المقاومة فور استلامه لمنصبه، حتى نزل عليهم كالصاعقة خبر استقالة قائد وحدة الـ “سييرت متكال” الملقب بالرمز “خ”، -وهي الوحدة الأكثر سرّية في الجيش الصهيوني- إثر فشلها في تنفيذ العملية الأمنية المعقّدة شرق خانيونس، وذلك بُعيد اكتشاف تحركاتها من قبل مجاهدي كتائب القسام، ثم الاشتباك معها وقتل أحد أهم قادتها واصابة آخرين، وهو ضابطٌ برتبة مقدّم وصفه ليبرمان عبر حسابه على تويتر بقوله: (إن “إسرائيل” خسرت مقاتلاً متعدد المهمات، وستبقى مساهمته في أمن الدولة السرية لعدة سنوات قادمة)، فيما وصفه نتنياهو قائلاً: (المقدم “م” الذي قتل في خانيونس مقاتلٌ باسل، ستُكشف أعماله البطولية في يوم ما).
فما هي وحد السييرت متكال وما المهام الموكلة إليها؟
“سييرت متكال” هي الوحدة العسكرية الأكثر نخبوية في جيش الاحتلال وتتبع مباشرة لرئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، هدفها الأساسي القيام بجمع المعلومات الاستخبارية وتنفيذ عمليات اختطاف واغتيال وزرع منظومات تجسس لدى “الجهات المعادية” للكيان الصهيوني، ومن بين الشخصيات العسكرية البارزة الذين قادوا هذه الوحدة وتخرّجوا منها: إيهود باراك “وزير الحرب الأسبق”، وبنيامين نتنياهو “رئيس الوزراء الحالي”، وشاؤول موفاز وموشيه يعلون “رئيسا هيئة الأركان العامة ووزيرا الحرب سابقا” وغيرهم من كبار قادة العدو، ويروي وزير الحرب الصهيوني السابق إيهود باراك، أن الوحدة قامت بتنفيذ عدد من العمليات الاستخبارية التي تركت تأثيراً استراتيجياً على مسار المواجهة مع مصر تحديداً، وتمكنت في حرب عام 1973م من اختراق شبكة الاتصالات التي يستخدمها الجيش المصري بشكل مكّن “إسرائيل” من التعرف على طابع التعليمات التي تصدر عن المستويات القيادية المصرية..”
ضربة جديدة توجهها غزة المُحاصَرة – بل المُحاصِرة- لمخططات العدو الأمنية والعسكرية ضمن معركة العقول وصراع الأدمغة التي لم تتوقف بين المقاومة الفلسطينية وكيان الاحتلال الغاصب، والتي أثبتت فيها المقاومة الفلسطينية أنها خصم عنيدٌ لا يُستهان به، ويستطيع إفساد مخططات العدو، بل وتوجيه ضربات مؤلمة وقاسية لعدو يمتلك أحدث المنظومات الأمنية والتكنولوجية في العالم برغم تواضع وضعف امكانيات المقاومة في غزة، فلم ينسَ الغزيون بعد تمكّن مجاهدي القسام في شهر مايو العام الماضي من افشال أكبر عملية تجسس على الشبكة السلكية لاتصالات المقاومة شرق المحافظة الوسطى باكتشاف منظومة التنصت التي زرعها العدو في أحد مقاسم الاتصالات والسيطرة عليها، قبل أن يقوم العدو بتفجيرها آلياً ليرتقي على إثر ذلك 5 من خيرة مجاهدي كتائب القسام، حفظ الله بدمائهم الزكية تضحيات شعبنا وإنجازات مقاومتنا.
العملية الأمنية شرق خانيونس التي نفذتها وحدة مُختارة من نخبة العدو في نوفمبر من العام الماضي، كانت تستهدف مجدداً زرع منظومة أمنية خطيرة داخل شبكة اتصالات القسام، لمحاولة سد العجز المعلوماتي الكبير الذي تعاني منه أجهزة استخبارات العدو، بعد الضربات القاسية التي وجّهتها الجهات الأمنية في غزة لشبكة العملاء، ما اضطر العدو للمغامرة بالدخول لوحل غزة والمخاطرة بأهم وحداته السرية وأكثرها حِرفيّة لتنفيذ هذه المهمة، فكانت غزة مقبرةً لهم، حيث كان يسعى العدو من خلال تلك العملية للتنصت على اتصالات المقاومة ومعرفة الخطط الدفاعية والهجومية التي أعدها المجاهدون استعداداً للمعركة القادمة، والأخطر من ذلك هو التنصت على تعليمات قيادة المقاومة للمجاهدين خلال المعركة، ما من شأنه أن يحقق للعدو تفوقاً أمنياً واستخباراتياً كبيراً في أي حرب قادمة.
لأول مرة منذ 23 عام تُجبر غزة – بصمودها وثباتها – ضابطاً رفيع المستوى في جيش الاحتلال على إنهاء خدمته العسكرية وتقديم استقالته من منصبه بسبب فشله في أداء المهام الموكلة إليه، فلقد اعتادت الوحدات الأمنية السرية التابعة للعدو الصهيوني -وعلى رأسها وحدة الـ “سيررت متكال”- على تنفيذ مهامها الأمنية في معظم دول العالم بهدوء ودون إحداث ضجيج، ليستيقظ العالم بعد ساعات من اخلاء مسرح الجريمة على عملية اغتيال أو اختطاف قائد من قادة المقاومة أو خبير من الخبراء الفلسطينيين، بعد أن تكون تلك الوحدات الأمنية الصهيونية قد غادرت البلاد، كما شاهدنا مؤخراً في عمليتي اغتيال الشهيد القسامي التونسي “محمد الزواري” مهندس طائرات الأبابيل في مدينة صفاقص التونسية، والشهيد الباحث والمخترع الفلسطيني د. فادي البطش الخبير في مجال الطاقة والهندسة الكهربائية الذي اغتيل في العاصمة الماليزية كوالالمبور.
أما هذه المرة فقد كانت غزة المحروسة برعاية الله ويقظة المجاهدين هي الساحة الأخطر لعمل هذه الوحدة التي تسللت تحت جنح الظلام في عملية أمنية مُعقّدة، سخرّ لها كيان العدو كل إمكاناته الأمنية والتكنولوجية –الهائلة- سعياً لإنجاحها، فقد تسللت الوحدة الصهيونية من إحدى المناطق الوعرة في السياج الفاصل شرق خانيونس، مستغلةً وجود الضباب الكثيف، وكانت مجهزةً بأدواتٍ متقدمة ومنظومة قيادة وسيطرة، ومعدات طوارئ، وكل ما يلزم لعمل قوة عسكرية خاصة، فكان لها مجاهدو القسام بالمرصاد وقتلوا قائد الوحدة وأصابوا آخرين واغتنموا منهم أسلحة خفيفة، والأهم من ذلك هو اغتنام منظومة القيادة والسيطرة التي وصفتها كتائب القسام بـ “الكنز المعلوماتي”، وقالت أنه سيعطيها ميزة استراتيجية على صعيد صراع العقول مع الاحتلال، ليرتقي في هذه العملية – التي أطلقت عليها كتائب القسام “حد السيف” – القائد القسامي الهُمام نور بركة و6 من مجاهدي كتائب القسام.
ما زالت غزة ومقاومتها – بثبات حاضنتها الشعبية وبطولات مجاهديها – هي الصخرة الصماء التي تتحطم عليها كل المؤامرات، والعقبة الكؤود في وجه مخططات تصفية القضية الفلسطينية واحتوائها وتدجين مقاومتها الباسلة، والشوكة الصلبة في حناجر قادة العدو الذين يقفون عاجزين أمام عنفوان شعبٍ مُحاصر فشلت كل الحروب العسكرية القاسية، والاقتصادية القذرة، والأمنية الخطيرة، في كسر صموده وإرادة القتال لدى مجاهديه، هذا النموذج الذي تقدمه غزة لم يأت عبثاً أو محض صدفة، بل هو – بعد توفيق الله عز وجل – نتاج عملٍ دؤوبٍ وجهدٍ متواصلٍ يبذله المجاهدون على جميع الصُعُد (العسكرية والأمنية والجماهيرية والإعلامية) دون التفريط بجانب على حساب الآخر.
المعركة الأمنية وملاحقة العملاء واليقظة المستمرة وإفشال مخططات العدو الاستخباراتية، لا تقل ضراوة عن الحرب العسكرية، كذلك فإن الاهتمام بالحاضنة الشعبية وإشراكها في تحمّل المسؤولية والرهان عليها – كما رأينا في مسيرات العودة وكسر الحصار- وتفقّد عائلات الشهداء والجرحى والفقراء برغم العجز المالي الكبير، بالتوازي مع العمل القتالي والتصعيد العسكري المنضبط بقرارات غرفة العمليات المشتركة، بالإضافة للعمل الإعلامي المميز الذي يهدف إلى ترسيخ فكرة الجهاد والمقاومة، والتحدي الصمود، ونبذ الأفكار الهدّامة التي تدعو للاستسلام وقبول الدنيّة والرضى بالحلول الدولية، كلها عوامل مهمة ساعدت المقاومة في غزة بالصمود والثبات والاستمرار في مقارعة العدو دون كللٍ أو مللٍ أو خور، حتى يقضي الله أمره بتمكين عباده المجاهدين من تحرير فلسطين وطرد الصهاينة المحتلين.
(المصدر: مدونات الجزيرة / مجلة “كلمة حق”)