كورونا… الواعظ الصامت
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:
يعيش الناس في دول العالم اليوم حالة ترقب وخوف من تمدد فيروس كورونا، وتقف حكومات العالم على قدميها لمتابعة هذا المرض وملاحقة آثاره، وتكتم أنفاسها من سرعة انتقاله بين الناس، ولا تدري ما الذي سيؤول إليه حال هذا المرض.
إن هذا المرض هو من أعظم العِبَر في هذا العصر؛ كيف لفيروسٍ لا يُرى بالعين، ظهر فجأة من دون توقع أن يُحدِث كلَّ هذا الأثر؛ ففي غضون أيام يسيرة أغلقت الدول حدودها، وعطلت مصانعها، وعلقت مدارسها وجامعاتها، وأوقفت حركة السفر والسياحة، وخنقت مسارات الاقتصاد والتجارة، وأوقفت معها الأنشطة الاجتماعية والثقافية والترفيهية، واضطر أكثر الناس لملازمة بيوتهم لتجنيبهم عدوى هذا المرض، بل حتى الاجتماع للعبادات لم يعد متيسراً كما كان.
هي عِبرة عظيمة على قدرة الله على خلقه، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو معنى غاب عن أكثر الناس في هذا العصر المادي الذي نسي فيه الإنسان ربه، وغرَّته نفسه، وظن بسبـــــــب ما فتـــــح الله عليه من علمٍ واكتشاف وتطور أنه قد أحاط بكل شيء، وما ثَمَّ ربٌّ يُخاف منه، ولا يحتاج إليه: {حَتَّى إذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس: 24].
جاء مثل هـذا الواعظ الصامت ليزيد المؤمن إيماناً ويقيناً، وليكون ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وسيبقى فئام من الناس لا ينتفعون بشيء: {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: 97].
ولنا مع هذا الحدث العظيم – الذي نسأل الله أن يكفينا شره، ويحمينا منه، ولا يرينا في أنفسنا ولا في مَن نحب ما نكره – وقفتان أساسيتان في التأكيد على معنيين شرعيين مركزيين في أي مصيبـة أو بلاء يتعرض له المسلم:
المعنى الأول:
أن المؤمن مع كل مصيبة أو بلاء أو مرض يصيبـه خاصة أو يصيب الناس عامة يعلم أن ذلك بتقديرٍ من الله لحكمة يعلمها، فيلجأ إلى ربه، ويستغفر من ذنبه، ويدعوه رَغَباً ورَهَباً، وفي الوقت نفسه يبذل السبب الواجب عليه من علاجٍ، أو وقاية، ولا يجد المسلم إشكالاً في اعتقاده بقدرة الله وقضائه على أن يبذل السبب، وهو أمر من البدهيات المقررة عند عامة المسلمين، وما يزال أهل العلم قديماً وحديثاً يذكِّرون الناس بالأمرين جميعاً.
ولهذا لا تكاد تجد أحداً من المسلمين يرفض العلاج أو الوقاية من المرض بسبب أن ذلك من تقدير الله وقضائه؛ وإنما يأتي التشغيب على أي حديث عن هذه المعاني الشرعية بدعوى الحرص على الأسباب الحسية الطبيعية من بعض الناس الذين يثقـل على قلوبهـم أي حديثٍ يذكِّر الناس بربهم ويعيدهم إلى دينهم.
فالعناية ببـذل الأسباب لعلاج المرض، أو الوقاية من آثاره بالالتـزام بالوصايا الطبية هو مما يُحَث عليه المسلم لما فيه من تحقيق للمصلحة ودفعٍ للمفسدة.
المعنى الثاني:
وكما أنه لا منافاة بين بذل العلاج والوقاية وبين الإيمان بتقدير الله لها، فكذلك لا منافاة بين الحكمة الربانية من الأحداث الدنيوية، والأسباب الحسية لها؛ فما يقع في الدنيا من مصائب أو كوارث أو أمراض هو يجري وَفْق سنن الله في الحياة فله أسباب طبيعية، قد تُعلَم وقد تخفى، وهذا لا ينافي أن يكون لله في هذه الحوادث حِكَم، ولا منافاة بينهمـا، ودائمـاً ما يقـع اضطراب وخصومات بين الناس في أمـر هذه المصـائب هل هي واقعة بأسباب حسية أم بحكمة من الله؟
وهذا غلط في التصور، لأن السبب الحسي يتعلق بشيء يختلف عن الحكمة الربانية؛ فالسبب الحسي يتعلق بكيفية وقوع هذا الشيء في الدنيا، فيبحث عن السبب الذي أثَّر فيه، وأما الحكمة فتتعلق بمراد الله من هذه الحوادث؛ فقـد تكون عقوبةً على قوم، أو ابتلاءً لهم، أو رفعةً في درجاتهم أو تكفيراً لسيئاتهم، أو غيرها من الحِكَم التي لا يمكن أن يحيط بها عقل الإنسان لأنها تتعلق بحكمة الله الواسعة، فالخلط يقع بين كثيرٍ من الناس في عدم تمييزهم بين هذين الأمرين.
فحين يبتلى جماعة من الناس بمرض أو حرب أو مصيبة معيَّنة، فإن هذا له سبب معروف يمكن أن تنسب إليه، ونؤمن في الوقت نفسه أن له حكمة من الله، وإن كنا لا نجزم يقيناً بها، ومن حكمته في ذلك أن الذنوب والمعاصي تؤثِّر فيما يصيب الناس، كما قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا } [الروم: 41] وقال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ } [الشورى: 30].
فهذه المصائب فرصة للتوبة إلى الله، والإقلاع عن المجاهرة بمعصيته، والانكباب على طاعته، وقراءة القران، والدعاء، والاستغفار، لأن الطاعة سبب شرعي للحفظ والصيانة، والمعصيةَ سببٌ للعقوبات والمصائب، وهو سبب شرعي لا ينافي السبب الحسي.
ولا يُعترَض عليه بأن الكفار قد لا يصابون بشيء، بينما يصاب المؤمنون بذلك، وقد يصاب الاتقياء الأنقياء، لأن حكمة الله لا يحيط بها عقل الإنسان القاصر؛ فمن حكمة الله أن تؤثر الذنوب في المصائب، ومن حكمته أيضاً أن لا يعجل للكافر عقوبته في الدنيا، كما أنه قد يبتلى المؤمن في الدنيا، وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل؛ فالخلل هنا هو الفهم القاصر لحكمة الله العظيمة، فيظن أحد أننا إذا قلنا إن من حكمته أن تكون المصائب بسبب الذنوب أن هـذا يعني أن كلَّ مذنب فلا بد أن تقع عليه مصيبة بقدر معصيته، وهذا فهم قاصر وخاطئ.
نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، وباسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب؛ أن يفرِّج عنا هذه الغمة، وأن يحفظ بلاد المسلمين جميعاً من هذا الوباء، ويكفيهم شره، ويلطف بهم، ويرحمهم، وأن يتفضل علينا فيجعلَ في ثنايا هذه المحنة العطايا والمنَح، وأن يجعل عاقبتها خيراً لنا في أمر ديننا ودنيانا.
(المصدر: مجلة البيان)