مقالاتمقالات مختارة

كهنة البلاط.. شرعنة الطغيان والاستبداد

بقلم بشرى كنوز
إن الأنظمة العسكرتارية عرفت كيف تحافظ على سلطتها المطلقة، وكيف تطيل عمرها، وذلك عبر العصور والحقب التاريخية المختلفة، فلجأت إلى الدِّين باعتباره الأساس القادر على تنويم الناس وتوجيههم. فإن كان البلد مسلما، فهناك نصوص معدة من السنة تصل العشرات، ومن خلال تأويل عاطفي، وشيء من العقلاني، يجعل هؤلاء البسطاء يقبلون الواقع المنحرف، وإذا كان المجتمع مسيحيا، فإن سيلا من النصوص الإنجيلية تنساب علي العقول والعواطف لصناعة مجتمع خانع.
التجارة بالأديان هي المشهد القديم الجديد في العالم، فقد كانت الحروب في أوروبا في العصر القديم تقوم على أساس الحروب الدينية، حيث كانت الكنيسة هي الراعية لحياة الناس، بل ووجدنا التحالف الأخطر في حياة الناس ما بين رجال الدين، ورجال السلطة في البقاء علي القمة ولكن على حساب البسطاء. أدوار متكاملة، والاستفادة من غياب الوعي. مما نشر الطغيان والفساد في الأرض باسم الله وبالتحايل على نصوص الدين، وعاشت أوروبا في ظلام دامس ما يقرب من ألف عام، وتم ذلك حين قام رجال الدين يفسرون الدين وفق مصالحهم وأطماعهم، كفهمهم لكلام السيد المسيح الذي يقول: (أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر وما لله لله). (إنجيل متى 23. 14: 23)، حيث زعموا آنذاك أن قيصر يحكم عالم الناس بما شاء وكيف شاء ومتى شاء، ويبقى الله بعيدا عن شئون الحكم لا يتدخل فيما يفعل قيصر بالناس، وبهذا التفسير الإجرامي لكلام السيد المسيح تم إعطاء قيصر المشروعية الدينية المطلقة في أن يفعل بالجماهير ما يحلو له من وفرض ضرائب والاستغلال والاضطهاد والاستبداد.

هناك من يجد في الدين وسيلة، لامتلاك الحظوة لدى نظام مستبد، ليكون الدين بذلك عبارة عن تجارة يكسب من خلالها الأموال الطائلة باستمراره في السيطرة على العقول.

وكالة الأنباء الأوروبية

وبالتالي، فإن الحروب الداخلية الأوروبية، شكل الدافع الديني أحد أهم أسباب قيامها، إلا أن الجديد هو أن الدين في عالمنا الإسلامي بدأ يأخذ منحنى غير الذي أتى به، وأنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وهو ما يزكيه سجل التاريخ حين اغتصب معاوية بن أبي سفيان الخلافة الإسلامية وقضى على الشورى وحول سلطة الخلافة إلى ملك وراثي ظلوم غشوم آثر به نفسه وأبناءه من بعده، وحين شعر معاوية بجرم ما فعله من اغتصابه للسلطة قام باستدراج بعض صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم من ضعاف النفوس وأغراهم بالمال والمناصب حتى يشرعنوا له اغتصابه للخلافة ويبرروا للناس استئثاره بالسلطة هو وأبناءه من بعده من دون الناس جميعا، فقاموا يروون الكثير من الأحاديث وينسبونها للرسول صلى الله عليه وسلم، وهي أقوال تجعل من الحاكم ما يشبه الإله الذي لا يسأل عما يفعل، وعلى الناس جميعا أن يسمعوا ويطيعوا حتى ولو نهب الحاكم أموالهم وجلد ظهورهم. و من هذه الروايات التي نسبوها للرسول نذكر:

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: (عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك) رواه مسلم، ومنها: قال الرسول لما سأله رجل: يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعوننا حقنا فما تأمرنا؟ فقال: (اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم) رواه مسلم، ومنها: قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: (يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال حذيفة: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: (تسمع وتطيع وإن ضُرِبَ ظهرك وأُخِذَ مالك، فاسمع وأطع). رواه البخاري ومسلم.

فقد أخذ كهنة البلاط وعلماء السلاطين يتاجرون بديننا الإسلامي بطريقة لا يمكن التغاضي عنها، إذ يوظفون الدين لخدمة المصالح المشتركة والمتبادلة بينهم وبين رجال السلطة، فهي علاقة تقوم على أن كل طرف يستمد مشروعية وجوده ومبررات امتيازاته من الآخر على حساب الجماهير، هذا في حال كان رجال السلطة لا يستمدون مشروعية وجودهم في السلطة من الجماهير ولا من امتثالهم بقيم العدل والحق أثناء ممارستهم للسلطة والحكم بين الناس، فهم في هذه الحال يجدون أنفسهم في أمس الحاجة إلى طرف آخر من خارج السلطة لتبرير وجودهم غير المشروع فيها، وكذلك لإضفاء المشروعية على احتكارهم لها وبقائهم فيها وعلى ممارساتهم غير المشروعة في حق الجماهير، وتاريخيا لم يجد رجال السلطة أحداً للقيام بهذا الدور الشيطاني أفضل من رجال الدين المرتزقة الذين باعوا الله وباعوا دينه وباعوا عباده وخانوا أمانته واشتروا بآياته ثمنا قليلاً.

فهؤلاء يجدون في الدين وسيلة، لامتلاك الحظوة لدى هذا النظام الاستبدادي، ليكون الدين بذلك عبارة عن تجارة يكسبون من خلالها الأموال الطائلة باستمرارهم في السيطرة على العقول تحت مسمى الدين. ويحثون العامة من البسطاء على السمع والطاعة، وعلى إعطاء الحقوق كاملة للحاكم الذي اختارته السماء من دون الناس أجمعين، ففي دمه نقاوة، وفي سيرته طهارة، فهو كما قال المفكر الفرنسي لوبواسيه في كتابه (العبودية المختارة): وينظرون للشعوب الخاضعة لهم نظرتهم إلى تركة من العبيد، ويتصرفون في شؤون المملكة كما يتصرفون في ميراثهم. فهو يعتقد أن الظلم والاستبداد أمر طبيعي، ويزداد الأمر عجبا حين يري في الشعب قبولا لظلمه، لأن الكهنة من رجال الدين سوغوا للناس قبول الظلم باسم الدين.

ولهذا فهم يتكلمون قبله، ويدافعون عن استبداده، ويرون في بقاءه استمرارا لمصالحهم، ويخافون من كل تهديد له، وكم كان القرآن صريحا وواضحا حين قال (وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ). ولهذا فهو يختار من رجال الدين أكثرهم شراهة للدنيا، وأقلهم تدينا، ويجعل ألعوبة في يده، يأتمر بأمره، ويشجع الانغلاق المذهبي، وقتل أي محاولة إصلاحية في الفكر الديني؛ لضمان استمرار الاقتتال المبطن، وحالة الرعب مع الأديان والطوائف والمذاهب الأخرى التي تجعل الشعب دائمًا مشغولًا بها، وتجعل كل فئة تحس أن النظام المستبد هو الوحيد القادر على حمايتها، وأنه في حال غيابه، فإن الآخرين سوف يبتلعونها.

إن العالم الإسلامي في نهضته الحالية، وفي خنوعه كذلك يشهد التحالف ذاته في المشهد السياسي ما بين المؤسسات الدينية والسلطة الحاكمة، وهم اليوم كما كانوا بالأمس، يمثلون العقبة الكأداء في طريق تحرير الإنسان، فالظلم السياسي مهما كان لونه مصيره الهلاك، فالله سبحانه لا يهلك الأمم بالكفر فقط، بل بالكفر والظلم معا، وينقذ الأمم بالعدل حتى ولو لم تكن مسلمة، لكل هذا جاءت ثورات الربيع العربي صاعقةً لكل الأنظمة العربية التي تحكم باستبداد شعوبها، وتختلف بين جمهوريات كاذبة وملكيات دينية مستبدة، ولكن المشكلة تكمن إلى أين تنطلق السفينة؟ هل سنشهد ثورة سياسية على هذا التحالف كما شهد الغرب، فتثور الأجيال اللاحقة على التحالف، وبالتالي سنرى عالما إسلاميا بلا هوية، أم سنشهد ثورة على الظلم تبقي الهوية، ونرى عالما إسلاميا خاليا من الظلم السياسي تحت راية شريعته، فهذا ما ستحكم الأيام، والأيام دول كما قيل.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى