كمشتَكين بن الدانشمند.. تعرّف على القائد التركي الذي هزم الصليبيين
إعداد محمد شعبان أيوب
كانت الصرخة الصليبية في مجموع كليرمونت بجنوب فرنسا في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي عالية حين نادى البابا أوربان الثاني في جموع رعاياه بضرورة التوحد والتحرك صوب الشرق لاستخلاص بيت المقدس من “الكفار” المسلمين، كانت صرخة مُدوّية لاقت صداها في ملايين الأوروبيين، وحرّكتها روح صليبية في أرجاء غرب ووسط أوروبا كافة؛ إذ كانت تتبع صيحات الرهبان والقساوسة دون تعقل أو تفكر، سوى إرضاء للرب، ومحاولة لتكفير الذنوب والخطايا للحصول على صكوك الغفران، بالإضافة لما يتبع ذلك من استخلاص لثروات الشرق التي لا تنفد.
كانت الطريق الآمنة إلى بلاد الشام وفي القلب منها “القدس” لا تمر إلا من بلاد الأناضول (تركيا اليوم)، هذه البلاد التي كان الأتراك والتركمان قد استوطنوها منذ ثلاثين سنة فقط، بعد انتصارهم في معركة “ملاذكرد” على البيزنطيين بقيادة السلطان السلجوقي الأشهر ألب أرسلان، وكانت هذه الجموع التركية تحت حكم أسرتين كبيرتين آنذاك؛ الأولى سلاجقة الروم الذين اتخذوا من قونية في وسط الأناضول عاصمة لهم، وكانوا فرعا مهما من فروع الأسرة السلجوقية، والأسرة الثانية في شرق وشمال الأناضول أسرة بني دانشمند التركمان، ومن هؤلاء برز كمشتكين أحمد، هذا الأمير الذي أذاق الصليبيين ويلات الهزيمة، ومرارة الفاجعة.
فمن هو كمشتكين؟ وكيف ظهرت أسرته على مسرح السياسة آنذاك؟ وكيف أباد بقلّة قواته وعتاده أهم الحملات الصليبية عن بكرة أبيها ومنع خطرها عن بلاد الشام؟ وما أهم النتائج التي ترتّبت على انتصارات هذا القائد التركي الذي ظهر قبل نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي بقرن على الأقل؟
ارتفعت مكانة الزعيم الدانشمندي عند ألب أرسلان لما رآه فيه من الذكاء والشجاعة والعقل، وعقد له لواء وكلّفه بفتح مناطق وسط وشمال الأناضول مثل سيواس وتوقات
كان كُمشتَكين بن دانشمند أول قائد تركي مسلم يحقق انتصارات كبرى على الصليبيين بعد سيطرتهم الخاطفة على مناطق الساحل الشامي وفلسطين، وينحدر هذا القائد من بني دانشمند، فوالده طايلو كان زعيما ومستشارا (أ) لواحدة من كبرى القبائل التركمانية التي استقرت بعد هجرات متوالية من وسط آسيا في مناطق أذربيجان وأرّان على حدود الأناضول، وكانوا قد اعتادوا على مواجهة القوات البيزنطية التي كانت تسيطر على كامل بلاد الأناضول قبل مجيء السلاجقة، ومع مجيء السلطان ألب أرسلان، واضطراره لدخول معركة ملاذكرد الحاسمة سنة 463هـ/1071م؛ فقد انضم طايلو وبني دانشمند إلى السلاجقة، وأبلوا بلاء حسنا معهم، كما دلّ السلاجقة على مكامن ضعف البيزنطيين وطرق بلادهم.
ارتفعت مكانة الزعيم الدانشمندي عند ألب أرسلان لما رآه فيه من الذكاء والشجاعة والعقل، وعقد له لواء وكلّفه بفتح مناطق وسط وشمال الأناضول مثل سيواس وتوقات ونكسار والبستان وملَطية، وضمن له أن البلاد المفتوحة في الأناضول كافة ستكون له ولعقبِه من بعده، بل أعطاه وثيقة مكتوبة بأن لا يتعرض أحد من السلاجقة لشيء من بلاد بني دانشمند المفتوحة مستقبلا، وكان ذلك في العام التالي بعد ملاذكرد سنة 464هـ/1072م، فظلّ طايلو لمدة 15 عاما متواصلة في صدام ومواجهة ضد البيزنطيين، واستطاع فتح كثير من بلدان الأناضول من جهة الشرق والوسط والشمال، حتى أنجز جزءا كبيرا من مهمته، واتخذ من مدينة نكسار (شمال شرق مدينة توقات التركية اليوم) عاصمة له، حتى وافاه الأجل سنة 477هـ/1084م[1].
تسلم ابنه كمشتكين أحمد بن الدانشمند الراية خلفا لوالده، ويعتبر المؤسس الحقيقي للدولة الدانشمندية في وسط وشرقي الأناضول آنذاك، بل وصلت جحافل قواته إلى مناطق شمال الأناضول مثل جانجري (شمال أنقرة اليوم) وسينوب وقصطمونية على ساحل البحر الأسود، وبينما الأمير كمشتكين يتوسع على حساب البيزنطيين في تلك المناطق، ويثبت مكانه ونفوذه؛ إذ صُدم بمجيء الحملة الصليبية الأولى التي أمدّها الإمبراطور البيزنطي أليكسوس كومنين بكل ما يملك لإيقاع الهزيمة والإذلال للمسلمين السلاجقة والدانشمنديين الذين استولوا على كثير من بلاده وممتلكاته[2].
حين تُوفي سلطان السلاجقة الأشهر مَلك شاه سنة 485هـ/1092م، كان موته سببا في دخول أبنائه وأقاربه من بعده في صراعات داخلية على الزعامة والسيطرة والنفوذ، الأمر الذي فتح الباب أمام الصليبيين للزحف بعشرات الآلاف من قواتهم للسيطرة على بلاد الشام والقدس، وجاءت حملة العامة، أي من هم من غير الجنود من الشعوب الأوروبية، والتي خلت من أي ترتيب محكم كبداية لهذه الحملات الصليبية فأبادها سلاجقة الروم قرب مدينة قونية، ولم يُبقوا منها أحدا.
غير أن الحملة الصليبية الأولى (1096-1099م) والتي قُدّرت بمئات الآلاف، كانت أكثر دربة وتنظيما وخبرة من الحملة السابقة، حيث أجبرت سلاجقة الروم على الانسحاب من غرب الأناضول بعد معركة دوريليوم قرب منطقة إسكي شهير فأعاد البيزنطيون الاستيلاء عليها، واتجه قادة الصليبيين جنوبا فاستولوا على أنطاكية والرُّها وطرابلس الشام وغيرها من مناطق الساحل الشامي، وانتهى بهم المطاف بالاستيلاء على بيت المقدس في قلب فلسطين بعد ارتكاب أفظع مذبحة في تاريخ العصر الإسلامي الوسيط راح فيها سبعون ألفا من سكان المدينة، وذلك سنة 492هـ/1099م[3].
استقر الصليبيون منذ ذلك الحين في إماراتهم أو دويلاتهم السرطانية الصغيرة، وكانت أكبرها وأخطرها هي إمارة أنطاكية على الحدود مع الأناضول والتي تولى زعامتها الأمير بوهمند النورماني، ذلك الأمير الصليبي الشرس الذي أنزلَ هزيمة قاسية بسلاجقة الروم “الأناضول” عند مدينة إسكي شهير، فكانت السبب الأبرز في تقهقرهم باتجاه وسط الأناضول، حيث اتخذوا من قونية عاصمة لهم، وقد شرع هذا الأمير الصليبي الخطير في توسيع نفوذ إمارته الصليبية بالعدوان على المناطق الإسلامية المحيطة به، وكان يطمع في السيطرة على مدينة حلب القريبة والكبيرة والإستراتيجية، والتي كان يحكمها آنذاك الأمير السلجوقي رضوان بن تُتش[4].
وبالفعل استطاع بوهمند الاستيلاء على عدد من القرى والقلاع القريبة من حلب، وكان يُعد خطته النهائية للاستيلاء عليها، وهي المدينة التي تُعتبر معقل شمال الشام، وباستيلاء الصليبيين عليها ستُصبح كامل بلاد الشام في الشمال والجنوب حتى دمشق في قبضتهم فيما بعد، وهو مشروع خطير لو تحقق. وبينما يستعد الصليبيون لإطباق حصارهم على حلب، جاءت استغاثة عاجلة من أمير مدينة ملَطية الأرمني في الأناضول يطلب النجدة العاجلة من حليفه بوهمند النورماندي، كي يخلصه من حصار الأمير كمشتكين بن الدانشمند، ويعلمه أنه إذا لم تأت له النجدة العاجلة ستسقط المدينة[5]، وكانت مدينة ملطية حين ذاك تعد إستراتيجية بالنسبة للصليبيين؛ ذلك لأنها تقع في شمال حلب وأنطاكية والرها، وباستيلاء الأتراك عليها سيصبح الطريق مفتوحا أمامهم لمواجهة الصليبيين.
توجّه الأمير الصليبي بوهمند على الفور يُرافقه خمسة آلاف فارس صليبي وأرمني من سكان تلك المناطق المتحالفين مع الصليبيين، وكان الأمير التركي كمشتكين يتوقع مجيء الدعم الصليبي، كما كان يملك جهاز مخابرات على قدر من الدراية والاطّلاع. في النهاية وصل بوهمند مستخفّا بكمشتكين وقواته التركية، وعند وادي أكسو القريب من مدينة ملاطية قرب الفروع العليا لنهر الفرات، انقض كمشتكين بن دانشمند على الصليبيين في شهر رمضان سنة 493هـ/أغسطس/آب 1100م، من أعالي التلال، وسرعان ما استطاع تطويق قوات الصليبيين، فأنزل الأتراك سيوفهم في رقاب الصليبيين فحصدوهم حصدا، وقتلوهم بمن فيهم أسقفا أنطاكية ، ووقع بوهمند وابن عمه ريتشارد وكبار الفرسان الصليبيون في أسر الأمير كمشتكين[6].
أدرك الأمير كمشتكين قيمة الصيد الثمين الذي وقع في يديه، فقد أسر الأمير الصليبي الأشهر، وزعيم الحملة الصليبية الأولى على بلاد المسلمين، ومن هنا، سرعان ما فكّ كمشتكين حصاره عن مَلاطية، وأخذ الأسرى مكبّلين في أغلالهم وأودعهم في قلعة نكسار النائية على البحر الأسود شمالا، وجاءت الأخبار كالصاعقة على مسامع الصليبيين في الشرق والغرب؛ إذ كان انتصار كمشتكين أول انتصار إسلامي على الإطلاق بعد الحملة الصليبية الأولى الناجحة، وفوق ذلك أسر بطلهم بوهمند بعد مُضي عام واحد فقط على احتلالهم الشرق؛ ما يعد ضربة لخططهم التوسعية[7].
كان سقوط بوهمند في الأسر قد اضطر الصليبيين في الشرق إلى مراسلة أوروبا والبابوية بضرورة إرسال حملات عاجلة لدعمهم، وسد نقص الرجال لديهم، وكان البابا باسكال الثاني قد ارتقى إلى كرسي البابوية خلفا لأوربان الثاني أول من نفخ في نار الحقد الصليبي، وشرع في حث الدول والممالك والمقاطعات والدوقيات كافة في تعزيز الوجود الصليبي في المشرق قبل أن “يقوم المسلمون أتراكا كانوا أم عربا باستعادة المناطق التي احتلّها الصليبيون”.
لاقت دعوة الصليبيين في المشرق صداها في أوروبا، ونُفخت من جديد الروح الصليبية المتعصبة التي لا يشفي غليلها سوى الدماء، وكان أول الوافدين قوات اللومبارد القادمة من إيطاليا، وقوات من مقاطعات ألمانيا وإنجلترا وفرنسا، فبلغ عددهم ثلاثمئة ألف مقاتل!
انطلقت هذه الجموع العسكرية الهادرة شرقي بحر مرمرة في يونيو/حزيران 1101م/494هـ، وقد غلب عليها طلب الثأر من القائد التركي كمشتكين واستنقاذ الأمير الصليبي بوهمند النورماني من قبضته، فقد اعتبروه البطل الصليبي الأكبر، وقائدهم الذي يجب أن يسمعوا له ويطيعوا، غير أن كثيرا من قادة الحملة والإمبراطور البيزنطي نفسه رأوا أن الدخول في صدام مع الأمير كمشتكين والتوغل في الأناضول أمر محفوف بالمخاطر، لكنّ اللمبارديين لم يسمعوا، وقرروا بكل حماسة المُضي قُدما، وكان قرارا عسكريا غير مدروس.
كان كمشتكين يراقب هذا السيل الجارف من الحشود الصليبية، فكان يأمر بإجلاء المسلمين عن طريقهم، ويحرق الزروع والثمار ويطم الآبار كي لا يستفيدوا بأي منها، فيصيبهم التعب والعطش في أيام الصيف الحارقة، فضلا عن استدراجهم إلى المكان الذي يراه مُلائما للانقضاض عليهم، كما اتخذ إستراتيجية الكمائن على طول الطريق، فأصابت هجمات قواته الخاطفة وقتلت الكثير من الصليبيين، ورغم ذلك استطاع الصليبيون الاستيلاء على أنقرة وكانت ضمن أملاك سلطان سلاجقة الروم، وقتلوا أهلها، وأعادوها لسلطة البيزنطيين ضمن اتفاقية بين الطرفين[8].
اتجه الصليبيون بعد ذلك صوب أملاك الدولة الدانشماندية في شمال ووسط وشرق الأناضول، وكان هدفهم الأكبر الاستيلاء على نكسار عاصمة بني دانشمند شمال شرقي توقات، وبعد مشقة وعنت كبيرين وصلوا أخيرا إلى مدينة وقلعة جانجري بالقرب من نكسار، وكان حاكمها إسماعيل بن دانشمند أخو كمشتكين، وبسبب حصانتها عادوا منها خائبين.
كان الوقت حينذاك شديد القيظ والحرارة في شهر يوليو/تموز، وقد نصح كبار القادة الصليبيين مثل ريموند الصنجيلي هذه الجموع بالاتجاه صوب مدينة قصطمونية في شمال الأناضول للاستيلاء عليها وكانت ضمن أملاك كمشتكين، ومنها يمكن أن ينفذوا صوب البحر الأسود ومن هناك يتجهون صوب القسطنطينية؛ لأن الأقوات والمياه في طريقها للانعدام، ولا سبيل أمام نجاتهم إلا هذه الخطة، وبالفعل وافقت هذه الجموع الهادرة على هذا القرار للنجاة بنفسها، لكن هذه الموافقة لم تكن بالحماسة المعتادة[9].
في تلك الأثناء، ظل كمشتكين يتخذ إستراتيجية إحراق الثمار وطم الآبار، والهجمات الخاطفة بالنبال والأسهم والفرسان الأتراك على مقدمة هذه الحشود تارة، وعلى مؤخرتها أخرى، الأمر الذي كان يضطر أغلب الجيش من فقراء الصليبيين إلى البحث عن الطعام والشراب في جماعات صغيرة متفرقة في براري الأناضول، فكان يسهل على الأتراك اصطيادهم من حين لآخر، الأمر الذي اضطر الصليبيين أن يظلوا في جماعة واحدة للنجاة بأنفسهم من هذه الهجمات المهلكة لكمشتكين وفِرقه العسكرية[10].
اقترب الصليبيون من مدينة قصطمونية، وهنا قررت الأغلبية اللمباردية أنه لن يشفي غليلها إلا الاستيلاء على نكسار عاصمة بني دانشمند في توقات، والإفراج عن قائدهم وبطلهم بوهمند النورماني، وبالفعل عادوا أدراجهم، وهنا أدرك كمشتكين أن ثمة معركة فاصلة لا بد منها، فقرر الاستنجاد بالقادة السلاجقة في حلب وقونية وحران، وكلهم دعّموه بالعساكر اللازمة، فقد كانت معركة مصيرية لهم جميعا، وأخيرا وفي شوال سنة 494هـ/أغسطس/آب 1101م، وصلت هذه الحشود الصليبية إلى منطقة مرسيفان (مدينة مرزيفون التركية اليوم) الواقعة في منتصف الطريق بين مدينة أماسيا ونهر هاليس (النهر الأحمر) شمال وسط الأناضول[11].
بنى كمشتكين خُطته للمعركة على مهاجمة الصليبيين على شكل موجات من الفرسان الرماة الذين يأتون بسرعة كبيرة إلى قرب الجيش الصليبي فيُمطرونه بسهامهم الماضية المصنوعة من السندان والعظام، ثم يعودون، فتعقبهم موجة أخرى من مكان آخر وهكذا، وقد فرض الأتراك أسلوبهم في القتال طوال ثلاثة أيام، حتى أعيا الصليبيين التعب والجوع[12].
وفي اليوم الثالث وقع الصدام والتلاحم بين الفريقين، فأنزل كمشتكين هزيمة ساحقة بمقدمة الجيش من قوات اللمباردين الطليان الذين ولوا الأدبار، فانفرط عقد الصليبيين، ثم هاجم الأتراك قوات الألمان فسحقوهم واستطاع من بقي منهم الفرار بأعجوبة، لكن الأتراك تعقبوهم وحاصروهم وأبادوهم عن بكرتهم، ثم تقدموا صوب المعسكر الصليبي فحصدوا المشاة الصليبيين بعدما قتلوا جميع الفرسان، وغنموا كل ما بقي في المعسكر من النساء والأطفال والأموال والمتاع، وكانت هزيمة مزلزلة لاقت أصداءها في أوروبا، بسبب ضخامة أعداد الصليبيين التي سقطت في أرض المعركة والتي قُدّرت بـ 90% من كامل القوات[13]!
لم تتسبّب هزيمة مرسيفان القاسية في إيقاف الزحف الصليبي القادم من أوروبا، ففي الوقت ذاته، قدمت حشود صليبية جديدة من كلٍّ فرنسا وبافاريا والنمسا، وعبروا البسفور بمعونة من أدلاء بيزنطيين، واتجهت قوات فرنسية بقيادة كونت وليم نيفر صوب قونية عاصمة سلاجقة الروم التي فشلوا في الاستيلاء عليها بعد حصار دام عدة أيام، ومن هناك قرر قائد الحملة كونت وليم الاتجاه صوب مدينة هرقلة الواقعة شرق مدينة قونية في محاولة منه للاستيلاء عليها، وإنزال هزيمة بالأتراك المشاكسين، ومحاولة رد الشرف الصليبي الذي أُهين على أيديهم، وقد جاءت الأخبار إلى كمشتكين في الشمال، فقرر الاتصال بالسلطان السلجوقي قلج أرسلان والتحالف معه، وقد التقى الطرفان بالفعل وقررا الالتحام مع هذه القوات الصليبية الجديدة وإيقافها وإبادتها بكل طريق ممكنة[14].
وصل القائدان التركيان إلى مدينة هرقلة قبل وصول الصليبيين، وكانت الحماسة عالية بسبب انتصار مرسيفان، وقرروا طم الآبار الواقعة على امتداد الطريق، وإتلاف الزروع والثمار، وبعد عدة أيام سار فيها الصليبيون في طريق شاقة وسط الأناضول، وفي طقس صيفي حار، ومياه شحيحة، وصلت هذه القوات إلى مشارف مدينة هرقلة في حالة يُرثى لها، فاستغلَّ القائدان التركيان هذه الحالة البائسة للصليبيين، فدخلوا في معركة حاسمة سريعة، أفضت إلى هزيمة ساحقة للفرسان والمشاة الصليبيين وقتلهم، وفرار قادتهم مثل وليم كونت نيفر وآخرين صوب أنطاكية، والتي دخلوها في حالة شديدة البؤس، عرايا بعد عدة أيام هاموا فيها في براري وقفار الأناضول[15].
لكن الهزيمة وإبادة جيش كونت دي نيفر، لم توقف مجيء قوات صليبية جديدة؛ ألمانية ونمساوية بقيادة دوق بافاريا ولف الرابع، وآيدا دوقة النمسا، مع فرقة عسكرية بيزنطية من قوات النخبة، وقوات فرنسية بقيادة وليم التاسع، فاتجهت هذه الجموع الكثيفة صوب مدينة آق شهير وسط الأناضول التي وصلوها في 10 أغسطس/آب 1101م/494هـ، فنهبوها ودمّروها تدميرا شاملا، ثم اتجهوا صوب قونية التي لم تستطع حاميتها الوقوف في وجه هذه الحشود الكبيرة، فاضطروا للانسحاب منها، وأخذوا كل شيء استطاعوا حمله[16].
قررت الفرق التركية استخدام إستراتيجية الهجمات الخاطفة، وطم الآبار، وإفساد الثمار، وحين وصل الصليبيون إلى قونية وجدوها مدينة أشباح لم تكن لتفيدهم في شيء، فقرروا المُضي قُدما صوب مدينة هرقلة التي هُزم فيها الفرنسيون بقيادة وليم نيفر قبل ذلك بشهر، فحطوا رحالهم فيها في أوائل سبتمبر/أيلول 1101م/494هـ بعدما اشتد بهم العطش والجوع وهجمات الأتراك القاسية.
ولأن هرقلة كانت تقع على أحد الأنهار المتدفقة وسط الأناضول، أدرك كلٌّ من كمشتكين وقلج أرسلان أن أول ما سيتجه له الصليبيون بعد دخولهم المدينة هو اتجاه النهر لعطشهم الشديد، فكمنوا بقوات الأتراك في الحشائش والغابات القريبة، وحين اقترب الصليبيون من النهر، خرج الأتراك وأطلقوا موجات متتابعة من السهام النافذة، فقتلوا الآلاف في الهجمة الأولى، فتقهقر الصليبيون من هول المفاجأة دون نظام، وكانت بعض القوات التركية قد كمنت لهم في خط الرجعة للانقضاض عليهم، فأصبحوا محاصرين من الأمام والخلف بقيادة كمشتكين وقلج أرسلان[17].
جرى تطويق الجيش الصليبي الذي اختلط فرسانه بمُشاته في أرض طينية سبخة، واستطاع المسلمون إنزال مذبحة كبيرة بالصليبيين، ليهرب على إثرها عدد من كبار القادة والفرسان للنجاة بحياتهم، وكانت هزائم هرقلة الأولى والثانية ضربة قاسية لجهود الصليبيين وحملاتهم، ودرسا لن ينسوه أبدا على يد الأتراك.
أدرك الصليبيون أن العبور في الأناضول بين الأتراك: سلاجقة ودانشمنديين، يعد ضربا من الانتحار، فالقائد العسكري كمشتكين بن الدانشمند بمعاونة قواته النظامية، وإستراتيجيته العسكرية التي أبادت الآلاف من الصليبيين طوال عام 494هـ لا يمكن معها المجازفة أو المقامرة بحماقة أو حماسة صليبية غير مدروسة، وقد أدرك البيزنطيون أن الأتراك الدانمشنديين والسلاجقة أضحوا واقعا لا يمكن تجاهله أو هزيمته في الأناضول، وأن أي توغل في بلادهم سيكلفهم الأرواح والأموال بعد انتصاراتهم الثلاثة في مرسيفان وهرقلة الأولى والثانية.
ولعل من أعظم النتائج التي ترتبت على هذه الانتصارات أن حماسة الصليبيين للحروب قد خمدت لنصف قرن على الأقل، وأن واحدا من كبار هؤلاء القادة المنهزمين في معركة هرقلة الأولى وهو وليم كونت نيفر أمام القائد كمشتكين عاش حتى أدرك زمن الحملة الصليبية الثانية سنة 542هـ/1147م وقد رفض الاشتراك فيها بعد الهزيمة المريرة التي تلقاها على يد كمشتكين التركي، وقد استغل كمشتكين انتصاراته وسحقه للصليبيين فتوسع في فتوحاته ليضم مناطق أعالي الفرات التي كان يحكمها الأرمن المسيحيون حلفاء البيزنطيين والصليبيين، واستطاع التوغل حتى إمارة الرها الصليبية ذاتها، واستطاع في نهاية الأمر الاستيلاء على مدينة ملاطية في عام 495هـ/سبتمبر/أيلول 1102م[18].
ولم يقف دهاء كمشتكين عند هذه الانتصارات العسكرية، فقد قرر إطلاق سراح بوهمند النورماني أمير أنطاكية بعدما أوهمه أن الإمبراطور البيزنطي يفاوضه لفك أسره مقابل 280 ألف دينار حتى يسترد منه مدينة أنطاكية التي كانت تتبع البيزنطيين، فخرج بوهمند من الأسر بعد دفع فدية قُدّرت بمئة ألف دينار، ثم اتجه صوب البابوية وقادة أوروبا يحذّرهم من خبث البيزنطيين وأنهم يتحالفون مع الأتراك من وراء ظهورهم، وبالفعل استفحل العداء بين الجانبين وكان هذا في صالح المسلمين في بلاد الشام والأناضول[19]، بينما كان الأمر خطة خداعية من كمشتكين.
وهكذا، حقق القائد التركي كمشتكين بن الدانشمند ما يمكن تسميته بمعجزة عسكرية وسياسية، فقد عرقل من مجيء الصليبيين لنصف قرن كامل، كان يمكن في أثنائها أن يستولوا على كامل بلاد الأناضول والشام، كما أدّت انتصاراته إلى إعادة الأمل، وبث روح المقاومة، وفتح الباب والوقت أمام ظهور قادة عسكريين آخرين مثل عماد الدين زنكي الذي سيُعيد أولى الإمارات الصليبية في الرُّها بعد ذلك بأربعين سنة تقريبا إلى الحضن الإسلامي من جديد، وقد توفي ابن الدانشمند في عام 499هـ/1105م ليخلد اسمه في سجل بطولات التاريخ الإسلامي!
________________________________________
الهوامش
أ/ (المستشار بالتركية تعني دانِشْمَن)
(المصدر: ميدان الجزيرة)