كمامة ميثاق العلماء لمواجهة كورونا التّطبيع
بقلم مخلص برزق
ورد في معنى التّطبيع في المعاجم العربيّة ما يجعلك تنفر من مجرّد ذكرها، فهي تحمل معانٍ سيّئة تأباها النّفس السّليمة مثل: (طَبَّعَ الشَّيْءَ وطَبَعَهُ: دنَّسَهُ وشانَهُ)، (الطَّبَعُ: الصَّدَأُ)، (الطَّبَعُ: الشَّيْنُ والعَيْبُ).
في حقبةٍ سالفةٍ من الزمان شكَّل التّطبيع مع الاحتلال الصّهيوني أمراً صادماً مستهجناً من أطياف واسعة من الشّرائح السياسيّة والمجتمعيّة، وقبل ذلك كلّه: الدينيّة، وانبرى كثيرون لمواجهته بوسائل عديدة متنوّعة لم تنل حظّاً كافياً من الدّراسة والتّحليل والتّقييم من أجل تثبيت الإيجابيّات وتلافي السلبيّات. ورغم الأخطار والأضرار الهائلة والكارثيّة التي نجمت عن موجة التّطبيع تلك، فإن فقر وضحالة المادّة التّوثيقيّة المتوفّرة عن الجوانب المختلفة لقضيّة التّطبيع وسبل مواجهته ومجابهته سياسيّاً وقانونيّاً وشرعيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً وإعلاميّاً. كلّ ذلك أدّى إلى تعرُّض الأمّة إلى انتكاساتٍ مستمرّة، واختراقاتٍ خطيرة في هذه القضيّة المحوريّة.
ففي مقابل جهودٍ فرديّةٍ مبعثرةٍ هنا وهناك، أو حتّى جهودٍ جماعيّة خجولة، جاءت كردَّات فعلٍ موسميَّة لمواجهة أخطار التّطبيع ومخطّطات المطبّعين، كانت هنالك على الجانب الآخر جهوداً دوليةً ضخمةً متواصلة رصدت لها ميزانيّات أسطوريّة، وأقيمت لها مشاريع كبيرةٍ هائلة، واستصدرت لأجلها القوانين، وأبرمت لأجلها المعاهدات والمواثيق لإحداث اختراق يجعل التّطبيع قاعدة لا استثناءً. ورغم بعض العثرات والإخفاقات، إلا أنَّ تلك الجهود قطعت شوطاً كبيراً في إسقاط دولٍ وحكومات وجماعات وأفراد في مستنقع التّطبيع الآسن، حتى بتنا نرى تزاحماً محموماً للتَّمرّغ فيه، من مجاهرين ومُنظِّرين لذلك الإفك الأثيم والعمل الشائن الذّميم.
موجة التّطبيع الحاليّة تكاد تبتلع دولاً ما كنّا نظنّ يوماً أنها ستنهار أمام ذلك السّيل الجارف، فقد ظننّا لوهلة أنَّ حصاد الوهم للدّول التي طبَّعت منذ زمن بعيد سيكون حاجزاً ومانعاً لغيرها عن الإقدام عليه، فقد بان لكل ذي عينين حجم الغبن والخسارة الفادحة التي منيت بها بسببه، فقد أجدبت الأرض، وحصد الواهمون الشَّوك بدل العنب، وازدادوا فقراً إلى فقرهم، وتخلّفاً إلى تخلّفهم وذلّة إلى ذلّتهم، مع ارتهانٍ كاملٍ لإرادة الأعداء.
سقط حكّام الإمارات في مستنقع التّطبيع الخيانيّ مع العدوّ الصّهيوني سقوطاً حرّاً، ولم يكن ذلك مفاجئاً ولا غريباً، فذلك الدّاء الفتَّاك له أعراض لا تخفى، وقد ظهرت جميعها جليّة واضحة، تمثّلت في شنّ حرب ضروس على صفوةٍ مباركةٍ من أبناء الإمارات البررة، كان القاسم المشترك الذي يجمعهم -ويدينهم عند حكّام الإمارات- مناهضة المشروع الصّهيونيّ ودعم القوى المقاومة له، وعملهم الدّؤوب على تعزيز عوامل القوّة والصّمود والثَّبات في الأمّة لمواجهته، ولم تكتف السّلطات بسحب جنسيّاتهم، بل عمدت إلى سجنهم والتّنكيل بهم، واتّهامهم اتّهامات باطلة بغية التّشهير بهم وتنفير النّاس من منهجهم، ولاحقت السّائرين على دربهم فكمّمت الأفواه وفرضت رقابة حديديّة على كل من يساند القضيّة الفلسطينيّة حتّى في مواقع التّواصل الاجتماعي، مع تزامن ذلك بطرد الآلاف من الفلسطينيّين المقيمين منذ أمدٍ بعيد في الإمارات من وظائفهم واعتقال الكثيرين منهم وإخراج الباقي خارج البلاد.
كان من أعراض داء التّطبيع التّورط في حصار دولة قطر وتحزيب الدّول ضدّها لدورها في التّخفيف عن أهل غزّة وسعيها إلى فكّ الحصار عنهم، وكان من الأعراض أيضاً قيام حكام الإمارات بلعب أكبر الأدوار في تكوين حلفٍ شيطانيّ لمواجهة الشّعوب المتطلِّعة إلى نيل حريتها وممارسة حقِّها في اختيار من يحكمها، فكان إجهاض ثورة 25 يناير في مصر، ودعم الانقلاب الدّمويّ الإجراميّ للسيسيّ على أوّل رئيس شرعي منتخب في تاريخ مصر الحديث، وكذلك التّآمر على ثورة الشَّعب في ليبيا بدعمها المجرم حفتر، وفي سورية بدعمها مجرم الحرب بشار الأسد، وفي اليمن التي عاثت فيها فساداً وإفساداً، وحاولت وما تزال تحاول تدمير تونس وإدخالها في أتون الفوضى، وحتىَّ دولة مالي لم تسلم من أذاها بدعمها فرنسا للسّيطرة على مقدّرات تلك البلاد.
كما تّبدّى إجرام حكّام الإمارات جليّا واضحاً في دعم محاولة الانقلاب الفاشل في تركيا يوم 15 تموز يوليو عام 2016، ودعم المنظّمات الإرهابيّة المعادية لتركيا، والتّورّط في محاولات تقويض الاقتصاد التّركي وزعزعة الليرة التّركية.
وقد كان من الأعراض أيضاً استضافة شخصيّات من حكومة العدوّ علناً كوزيرة الثّقافة “ميري ريغيف” التي تجوّلت في مسجد زايد في أبو ظبي برفقة مسؤولين إماراتيّين، ومن قبل ذلك استضافة فرقٍ رياضيّة وعزف ما يُسمَّى بالنَّشيد الوطني للكيان الصّهيوني.
ولم يكن ليخفى على أيّ مطّلع حجم التّأثير الذي مارسه حكّام الإمارات على السّعودية إلى درجة التّطويع شبه الكامل في سياساتها المعادية للصّحوة الإسلاميّة والقوى الحيّة، حتّى أنّ كلّ أعراض داء التّطبيع انتقلت بشكلٍ واضحٍ جليّ أيضاً لها. وباتت كلّ المؤشرات تدلّل على أنّ السّعوديّة أصبحت قاب قوسين أو أدنى على الدخول في تطبيعٍ سياسيٍ مُعلَنٍ بينها وبين الكيان الصهيوني، يرجّح أن ترعاه إدارة ترامب التي تمارس ضغوطاً هائلة على محمد بن سلمان مستغلَّة أزماته الكثيرة المحيطة به وآخرها مأزقه القضائيّ الذي وضعه فيه مسؤول المخابرات السعوديّة السّابق الدكتور سعد الجبري برفعه قضيّة ضدّه في محكمة أميركية.
يسهل علينا تشخيص الإصابة بداء التّطبيع وتبيّن أعراضه، لعلّ أبرز إرهاصاتها شنّ حملة اعتقالاتٍ واسعة في صفوف العلماء المعروفين بمناهضتهم للمشروع الصهيونيّ وتأييدهم لمشروع المقاومة على أرض فلسطين، على رأسهم الشّيخ سلمان العودة والشّيخ عوض القرني والشيخ محمد موسى الشريف ومن قبلهم الشيخ الطريفي وغيرهم الكثير.
إنّه الوقت ذاته الذي يقبع فيه مئات العلماء الأجلاّء خلف القضبان يسامون سوء العذاب في سجون الانقلابي السيسي، بل إنَّ الكثير منهم قضوا نحبهم فيها، وهم الذين كانوا شوكةً في حلوق الصّهاينة وأذنابهم المطبِّعين، ولابدّ من التَّذكير بأنّ الدّاعم الأكبر لذلك الانقلاب كانت الإمارات والسعودية ومن دار في فلكهما.
وعلى شاكلة فيروس كورونا الذي لم يتوقّف عند مدينة يوهان الصّينية، فإنّ داء التّطبيع لن يقف عند الإمارات، فالكثير من الدّول العربيّة والإسلاميّة يكمن داخلها فيروس التّطبيع، وتشخيصها إيجابيّ بأنّها حاملة للمرض، لكنّها وبوسائل خبيثة حاولت وتحاول إخفاءه وإنكار وجوده دائماً، لكنَّها اليوم على وشك الإعلان القطعيّ بأنّه يسري في دماء حكامها، والعارفون ببواطن الأمور يرشِّحون (إضافةً إلى السعودية) البحرين وسلطنة عمان والسودان في الأفق القريب. وهو ما قد يزيد من فرص انتقال الوباء إلى دولٍ أخرى لتلك الدّول دالّة عليها، الأمر الذي يجعل من الضّروري مواجهة ذلك الخطر الدّاهم، وأن يبادر العلماء الذين هم حكامٌ على الملوك والأمراء، والذين هم الأطبّاء للأمراض المستعصية على العلاج، إلى تفعيل دواءٍ وعلاجٍ ناجعٍ لذلك الدّاء، كانوا قد أعدّوه في مرحلة تطبيعية سابقة، وبذلوا جهوداً مضنية للتوصل إلى أفضل صيغة تضمن الوقاية من الدّاء وعلاج آثاره المدمّرة.
كان لابدّ لهم من وقفةٍ حازمة تضيء للنّاس دربهم وطريقهم في هذا الزّمان الذي اختلطت فيه الأمور، ونُصِّب فيه للنّاس علماءُ سوءٍ يُفتون بما يُملي عليهم به حكامهم وسلاطينهم وملوكهم ليُضلّوهم عن سواء السبيل وليلبسوا عليهم دينهم ويُمكِّنوا لعدوِّهم في أرضهم المباركة وسائر بلادهم، فكان أن تداعى عدد كبير من العلماء الكبار ممّن لهم شأنٌ وكلمةٌ مسموعة في بلادهم لصياغة ميثاقٍ للأمّة ليكون دستوراً يبيِّن أحكام التّطبيع بكافّة أشكاله ويبيّن وسائل مقاومته، وصدر عنهم “ميثاق علماء الأمّة لمقاومة التّطبيع السّياسيّ مع الكيان الصهيوني”. وقد احتوى ذلك الميثاق على عدّة عناوين ومحاور جمعت الكثير من القضايا والإشكالات المتعلقة بالتّطبيع مع الكيان الصّهيوني، كان منها محور “أهداف التّطبيع ومقاصد المطبِّعين”، ومحور “توصيف الكيان الصّهيوني وحكمه الشّرعي والقانوني”، ومحور “الأحكام الشرعيّة والقانونيّة للتّطبيع السّياسيّ”، ومحور “التّطبيع ومهمّة الحاكم”، ومحور “منطلقات ومبادئ في مقاومة التّطبيع”، ومحور “مقاصد مقاومة التّطبيع”، ومحور “مفاسد التّطبيع ومخاطره”، ومحور “الواجبات التي تقع على شرائح المجتمعات العربيّة والإسلاميّة والإنسانيّة بشخصيّاتها ومؤسّساتها وتجمّعاتها”.
وقد توزّعت تلك المحاور على أربعة وأربعين مادّة فصَّلت تفصيلاً دقيقاً وافياً في إيضاح الأحكام الشّرعيّة التي توافَقَ عليها علماء الأمّة الذين وقَّعوا على ذلك الميثاق بغرض بيان الحكم الشّرعي في التّطبيع مع الكيان الصهيوني وبيان الواجب الشّرعيّ المترتّب عليها.
إنَّ هذا الميثاق يختصر الكثير الكثير على كلّ باحثٍ عن الحقّ والحقيقة، وعلى من يريد أن يبرأ لدينه وعرضه ويسهم في صدّ مكائد أعداء الأمّة المتربِّصين. وذلك من خلال تفعيل ذلك الميثاق واعتماده منهجاً في التَّعامل مع موجات التّطبيع الآثمة كي تستقيم الرّؤية تجاه المطبِّعين فيُنبَذوا ويُحاربوا ويُمنعوا من استدراج الأمّة إلى مَهلكةٍ تجعلها أمّةً ضعيفةً ذليلةً تستجدي رضا أعدائها، إقراراً لهم بنهب خيراتها وسرقة أرضها وتدنيس مقدساتها، وتسليم فلذات أكبادها لهم كي يهوِّدوهم وينصِّروهم ويستعبدوهم.
(المصدر: هيئة علماء فلسطين في الخارج9