كليات الشريعة الإسلامية في تركيا.. بين التاريخ والتحديات الحالية
بقلم د. ياسين أقطاي
رجال الدين في أي مجتمع من المجتمعات كائنا ما يكون دينهم أو مذهبهم أو طائفتهم يحظون بمكانة خاصة في هذا المجتمع بوجه عام وفي أوساط فئتهم الدينية الاجتماعية بوجه خاص، وتنبع المكانة والاحترام اللذان يتمتع بهما رجل الدين بالدرجة الأولى من الرسالة والدور الكبير الذي يضطلع به كمرشد روحي ومصلح ديني واجتماعي وقدوة للفضيلة والمكارم.
تحتل كليات الشريعة الإسلامية في تركيا مكانة كبيرة ضمن الجامعة، وهي في فلسفتها تخضع للنموذج الوضعي الذي يعتبر العلم يصل إلى درجة يكون فيها واثقا من نفسه ومن قدرته الهائلة على تقديم أجوبة لكل الأسئلة المطروحة واقتراح حلول ناجعة لكل القضايا والإشكالات
وبهذا المعنى فإنه إذا ما اهتزت هذه المكانة بإساءة مقصودة أو غير مقصودة لصاحبها كان ذلك دافعا لحدوث توترات واضطرابات في الأوساط الاجتماعية والدينية غير محمودة العواقب، في الوقت الذي يضطلع فيه رجال الدين بأدوار استثنائية في المحافظة على السلم الاجتماعي في مجتمعاتهم وضرب قدوة عليا في التسامح والمجادلة بالتي هي أحسن من خلال احترام بعضهم البعض وعدم التراشق بسقط الكلام أو الكلمات النابية، خاصة في خلافاتهم الفقهية والسياسية، ويجب أن يكون نصب عيونهم المجتمع الذي يوجدون فيه ويؤثرون عليه بشكل مباشر وغير مباشر.
عند مراقبة ردود الأفعال التي تحدث عندما يتجاوز واحد من رجال الدين من وقت إلى آخر حدا من الحدود أو يسقط في زلة أو يبدر منه رد فعل غير مناسب أو يقع في انتهاك قاعدة معينة نلاحظ من خلال ردود الأفعال هذه المكانة الكبيرة التي يتمتعون بها في قلوب الناس، وهذا يعكس ضمنا أن لديهم توقعات محددة وكبيرة وعالية بشأن رجل الدين ومواصفاته، وهذا بدوره يعكس مدى أهمية دوره تجاه المجتمع والمؤسسات.
لكن بالعودة إلى تاريخ هذه المهمة الكبيرة الموضوعة على عاتق رجال الدين نجد أن وضع علوم الدين محير إلى حد ما، وتحتل كليات الشريعة الإسلامية في تركيا مكانة كبيرة ضمن الجامعة، وهي في فلسفتها تخضع للنموذج الوضعي الذي يعتبر العلم يصل إلى درجة يكون فيها واثقا من نفسه ومن قدرته الهائلة على تقديم أجوبة لكل الأسئلة المطروحة واقتراح حلول ناجعة لكل القضايا والإشكالات.
يتطور مفهوم الجامعة مع الزمن، وما نسميه جامعة هو إطار عمل يتم فيه تقييم شتى أنواع العلوم وفقا لدرجة أهميتها، فعلى سبيل المثال، المؤسسات التعليمية مثل “المدارس النظامية الإسلامية” -التي تأسست في عهد السلاجقة وسميت على اسم الوزير قوام الدين أبو الحسن الملقب بـ”نظام الملك” وكانت أكبرها في بغداد وشيدت بأكملها على نفقة الدولة وكان معلموها على النظام الشافعي- كانت أول المدارس التي تعتمد أسلوبا تعليميا منتظما مبنيا على التخصص المعرفي والحضور المنتظم للطلاب بعد أن كان التعليم يعتمد طوال العصور السابقة على الحضور الطوعي لطلاب العلم في حلقات العلماء.
قامت هذه المدارس على أسس النهوض بالمجتمع للأداء الأمثل للتكاليف الشرعية المختلفة وتوسيع الأفق الفكري ونقل التراث ونشر الفكر السني وإعداد الكوادر الفنية، ومزجت في مناهج التدريس فيها بين الطابعين الديني والعلمي طبقا للاحتياجات الخاصة بكل منطقة، فمن الناحية الدينية كانت تعقد دروسا منتظمة لتخصصات الفقه والحديث النبوي وتعين لها الكتب التي سيعتمد عليها الشيوخ في التدريس، وألحقت ببعض المدارس قاعات لتدريس علوم مدنية لعل أهمها على الإطلاق الطب والفلك.
أما الكليات التي صممت وفقا لتقاليد الجامعات الألمانية في أوروبا أو التي أسسها لاحقا عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي أوغست كونت فإنها تقوم على ترتيب هرمي مختلف تماما للعلوم، أساسه أن العلم يتطور بمرور الوقت بدءا من أبسط التخصصات العلمية وأكثرها عمومية -كعلم الفلك من وجهة نظر كونت- إلى أعقدها وهي العلوم الاجتماعية.
بمعنى أن العلوم تتقدم بتقدم المراحل، وكل مرحلة متتالية تبنى على إنجازات أسلافها فتمر المعرفة العلمية بمراحل نمو متشابهة لكن تتقدم العلوم المختلفة بمعدلات مختلفة، وهذا يجعلها تصل إلى نتائجها الإيجابية في وقت مبكر عن الأخرى بما يتناسب مع عموميتها وبساطتها واستقلالها.
ويرى كونت أن العلوم مصنفة إلى مستويات عدة تنشئ تسلسلا هرميا، الصرح المتوج لهذا الهرم هو العلوم الاجتماعية، وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أنه متفوق على العلوم الأخرى ولكنه يساعد على جعل جميع العلوم الأخرى على علاقة ببعضها البعض.
وأشار إلى أن علم الفلك يتطور أولا تليه الفيزياء والكيمياء ثم علم الاجتماع، ويعتمد كل علم في تطوره على التطورات السابقة لأسلافه، ويرى أن المعرفة الفعالة تقتضي دراسة العلوم بالترتيب الهرمي لها، فلا يمكن فهم علم الاجتماع دون معرفه بالعلوم التي تسبقه في الترتيب الهرمي.
جميع الأساتذة الجامعيين في دار الفنون كانوا “يتصرفون كمراقبين محايدين”، ولا سيما في ما يتعلق بإصلاح اللغة والتاريخ. بعبارة أخرى، لقد شاهدوا الإصلاحات كمتفرج سلبي وحيادي، لكن ما كان متوقعا منهم ليس فقط قبول أطروحات التاريخ الجديدة وأطروحات اللغة والثقافة، وإنما أيضا أن يقوموا بموقف إيجابي ومتحمس
فهناك اختلاف كبير بين الفلسفة التي تقوم عليها الجامعات المختلفة في تناولها للعلوم الطبيعية والنظرية حسب التاريخ والحقبة الفكرية التي قامت فيها هذه الجامعات، فالتخصصات والمجالات والكليات لها أنظمة تصنيف مختلفة بسبب اختلاف المصادر والمراجع المعرفية والأفكار الفلسفية في هذه الجامعات، كما أنها تتأثر ببعضها البعض نتيجة لذلك، لكن بالتأكيد ستكون هناك معلومات أو أفكار مشتركة وغير قابلة للإحصاء بين هذه المجالات.
بالعودة إلى الجامعات في تركيا بعد إعلان قيام الجمهورية تم إنشاء كلية الشريعة داخل حرم جامعة دار الفنون التي كانت الجامعة الوحيدة في تركيا آنذاك، لكن هذه الكلية لم تلعب الدور الكبير المتوقع منها في “الإصلاح الديني” الشهير الذي اقتُرح عام 1928 وأثار غضبا واسعا لدى الشعب لأنه تضمن الكثير من التغييرات مثل ألا يمكن أن يكون الأذان باللغة التركية أو أي لغة أخرى إلا العربية، وأداء الصلاة باللغة التركية، وتجهيز المساجد بمكاتب وبيانو وغيرها من التغييرات التي لم يكن مدرسو علوم الدين مستعدين لقيادة المشهد في تلك اللحظة ومجابهة مثل هذا الإصلاح، ففقدت كلية الشريعة الإسلامية شعبيتها ولم تكن الوحيدة في ذلك، لأنها لم تستطع أن ترقى إلى مستوى التوقعات.
وحسب تعبير وزير التعليم في ذلك الوقت رشيد غالب، فإن جميع الأساتذة الجامعيين في دار الفنون كانوا “يتصرفون كمراقبين محايدين”، ولا سيما في ما يتعلق بإصلاح اللغة والتاريخ. بعبارة أخرى، لقد شاهدوا الإصلاحات كمتفرج سلبي وحيادي، لكن ما كان متوقعا منهم ليس فقط قبول أطروحات التاريخ الجديدة وأطروحات اللغة والثقافة، وإنما أيضا أن يقوموا بموقف إيجابي ومتحمس.
وبما أنها لم تستطع تلبية هذه التوقعات تم إغلاق جامعة دار الفنون خلال عملية إصلاح الجامعة في عام 1933 وافتتحت مكانها جامعة إسطنبول التي لم تتضمن كلية للشريعة الإسلامية، وحتى في غيابها تم تحقيق بعض الإصلاح الديني المنشود.
تُرجم الأذان إلى التركية وحُظرت الأبجدية العربية ومُنعت طباعة القرآن بالحروف العربية، وفي عملية استمرت 18 عاما لم يبقَ لا كلية شريعة إسلامية ولا مدرسة “الإمام الخطيب” ولا أئمة أو علماء الشؤون الدينية، وحتى المدارس الدينية التقليدية التي أصبحت غير قانونية في ظل الإدارة الجديدة تم إغلاقها أيضا، وفي العديد من الأماكن واصلت هذه المدارس الدينية أنشطتها في إطار حركة مقاومة شعبية سرية.
وخلال تلك الفترة لم تقتصر الضغوط على إغلاق مؤسسات التعليم الديني فحسب، بل شملت أيضا دعاية مكثفة عملت على تشويه المفاهيم والرموز الدينية مثل الإمام والمؤذن والمتدين، الحاج والمعلم، ولا تزال الصور النمطية التي ولّدتها هذه الدعاية تغذي خطابات الإسلاموفوبيا أو رهاب الإسلام.
ولم يكن الهدف من تلك السياسة المعادية للدين تشكيل تنمية اجتماعية موائمة للحداثة وإنما خلق جو يسمح بكراهية كل ما يتعلق بالدين ومحو الدين تماما من المجتمع، وقد نجحوا في ذلك إلى حد كبير.
في عام 1949 عندما كان حزب الشعب الجمهوري لا يزال في السلطة، وفي الوقت الذي شعر فيه أنه في خطر مع اقتراب الانتخابات الكبيرة القادمة أعيد فتح كلية أصول الدين ومدارس الإمام الخطيب، لكن لماذا وكيف؟ يرى الكثيرون أن إعادة فتح هذه المؤسسات مثّل ضرورة منطقية بالنسبة لحزب الشعب الجمهوري.
والسؤال المطروح: ما الأسباب التي دفعت حزب الشعب الجمهوري إلى إحياء التعليم الديني الذي اعتبره الشعب لسنوات رجعيا؟ هل تغيرت قيادات حزب الشعب الجمهوري؟ هل اكتشفوا الحقيقة فجأة؟ هل وجدوا طريق الهداية؟
بالعودة إلى المناقشات في مؤتمر حزب الشعب الجمهوري الذي عقد في عام 1947 بشأن كليات الشريعة الإسلامية يبدو الغرض من إنشاء كليات علوم الشريعة واضحا.
في عام 1949 ولشدة الحاجة إلى رجال الدين قام حزب الشعب الجمهوري -الذي أغلق ثانويات الأئمة والخطباء- بعقد دورات تأهيل للأئمة والخطباء، ولكنها لم تلقَ إقبالا، وفشلت لاشتراطها على من يريد التسجيل أن يكون منهيا خدمته العسكرية ومتخرجا في المدارس الإعدادية على الأقل التي كان عددها قليلا جدا، ومن أنهى خدمته العسكرية غالبا ما يكون متزوجا وعنده أطفال، ولا توجد معاشات للأئمة والخطباء والمؤذنين في المساجد.
بعد الحرب العالمية الثانية أصبح من الضروري تعدد اﻷحزاب السياسية في البلاد، فتم تأسيس حزب الديمقراطية في تركيا كمنافس لحزب الشعب الجمهوري، وعقب فوز الحزب الجديد بانتخابات عام 1950 دار جدل في البلاد حول ضرورة إعادة فتح مدارس الأئمة والخطباء، وكانت نتيجة هذا الجدل أن عادت هذه المدارس إلى الساحة التعليمية.
افتتحت في ذلك الوقت 7 مدارس في أقاليم تركية هي إسطنبول وأنقرة وأضنة وقيصري وإسبارطة وقونية ومرعش، وكانت ثانوية اﻷئمة والخطباء في إسطنبول أول ثانوية تفتح في تركيا، وبذل أول مدير للمدرسة آنذاك جلال الدين أوكتان مجهودا كبيرا لفتح المدرسة وإعداد المناهج الدراسية ووضع الأنظمة الخاصة بها.
ما أود قوله إن كليات الشريعة الإسلامية مرت بالكثير من التوترات والتغيرات من كل الجوانب التي تجعلها تواجه تحديات كبيرة دائما ويجعل عليها مسؤولية كبيرة في الوفاء بما يتوقعه المجتمع منها، وإن جزءا كبيرا من التماسك الديني والاجتماعي في بلدنا يقع على عاتقها.
المصدر: الجزيرة