مقالاتمقالات مختارة

كلمة في اقتران الخلق والأمر

بقلم فضيلة د. محمد رجب محمد ( عضو رابطة علماء المسلمين )
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد ألا إله إلا الله، رب الطيبين، وولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد:
فإن من لطيف ما في قوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:154] أنك تجد “ألا” تطلب انتباهك إلى اختصاص الله تعالى بالخلق والأمر جميعًا، وقد جمعت الواو بينهما، فلا يفترقان، وقرنتهما فيه فلا ينفكان.
وإنك لترى في الخلق جمالًا يشهد بهذا الاختصاص الرباني، فلو توزع في شيء منه لاختفى ذلك الجمال ولفسد المشهد بأسره، ولهذا كان التوازن والانسجام أهم خصائص ذلك الخلق، فلا تجد في صورته نشوزًا ولا شذوذًا، ولا بين مكوناته مكابرة ولا منافرة، بل اتسق مشهده برغم كل الاختلاف والتباين الذي فيه، التئامًا بين كل عناصره، وانسجامًا بين جميع مكوناته، كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ . ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3-4]، وقال سبحانه: {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40].
وهذا التوازن الطبيعي الذي يراه المتأمل في الخلق ينسحب على جهة الأمر، بنفس القدر والإتقان، وكأنما انطبع به، غير أنه توازن تشريعي، في كل رقعته، لا يدركه حق الإدراك إلا أهل النصفة وحسن التدبر.
وإن التوازن والانسجام الذي يجده العبد بدخوله في الاستجابة لأمر خالقه سبحانه ليجلب إلى قلبه سلامًا وسكينة، كما يجد الناظر إلى تلك الطبيعة الخلابة في نفسه من الراحة والسكون، بل أشد. وهذا التواؤم والانسجام لا يتعلق بجهة من العبد دون أخرى، بل يشمله كافة، ويستغرق منه كل شأنه، فلا يخرج عنه شيء إلى مشاكسة أو منازعة بين نفسه ومن حوله، أو روحه وجسده، أو آخرته ودنياه، أو ما له وما عليه. بل يتجاوز ذلك العبدَ إلى كل الحياة، فيتزن بهذا التشريع كل شيء بحيث يصبح مطمئنًا في موضعه ، متلائمًا في علاقاته، فلا يبغي شيء على آخر: الرجل والمرأة، الكبير والصغير، الفرد والمجتمع، الراعي والرعية، الغني والفقير، …وهكذا.
وسر هذا: أن الاتزان والانسجام لا يحصل إلا بتحقق العلاقة الطبيعية بين الأشياء، على ما هي عليه في حقيقة الأمر والواقع، بلا ميل إلى طرف عن آخر، وإلا حصل تضخم زائف في جهة على حساب ضمور الأخرى، فيحصل البغي والمنازعة. وإصابة العلاقة الطبيعية بين الأشياء صعب في العلوم التجريبية والمشاهدات المادية، وهو بلا شك أصعب وأعز إدراكًا في علوم أخرى، كالاجتماع والقانون والسياسة، ونحوها؛ إذ يفضي اختلاف العقول والآراء إلى صور شتى من الانحراف عن إصابة العلاقات الواقعية الصحيحة، بل لا يمكن في الحقيقة إدراك تلك العلاقة من جهة البشر، لا لتباين آرائهم أو قصور نظرتهم فحسب؛ بل لأنهم جميعا أطراف في ذات المشهد، وأهم مكوناته التي تفتقر إلى من يُسْكنها موضعَها من جهة، ويضبط ويزن علاقاتها من جهة أخرى.
وهل ما يجده أكثر الناس من كآبة العيش، وشدة الحياة إلا ختم الوحشة والنفرة؛ لما راح الانسجام وفقد الاتزان؛ باستبدال هدي السماء بمختلِف الآراء ومجروح الأهواء؟!! إن البشر أشد شيء فقرًا إلى أطر خاصة وعامة، تأتيهم من حيث لا تتعارض الآراء ، ولا تتصور الأهواء.
إنه صاحب الخلق والأمر سبحانه، الذي ناسب أمره خلقه، ووسع شرعه عباده، فكيف يصار إلى غيره؟! وكيف يرجع إلى من سواه؟! وقد صدق جل في علاه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ} [المؤمنون:71]. والحمد لله رب العالمين.

(المصدر: رابطة علماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى