مقالاتمقالات مختارة

كفتارو وانقلاب حافظ الأسد؛ تحالفٌ واستثمارٌ متبادَل

كفتارو وانقلاب حافظ الأسد؛ تحالفٌ واستثمارٌ متبادَل

بقلم محمد خير موسى

تصاعد السّخط الشّعبيّ من ظلم الانقلاب البعثيّ، وهذا يصبّ في صالح حافظ الأسد الذي كان يدبّر للانقلاب على رفيق دربه صلاح جديد وقد عاشت البلاد تحت حكمه ويلاتٍ ظنّ النّاس معها أنّهم بلغوا أقصاها، فكانوا على استعدادٍ للقبول بأيّ قادمٍ لأنّه لن يكون في ظلم صلاح جديد مهما بلغ من الاستبداد والجور كما ظنّوا وتوهّموا.

  • لبس البدلة العسكريّة وحمل البواريد

قدّم حافظ الأسد نفسه مخلّصًا لسوريا من ظلم الرّفاق البعثييّن، وكان لا بدّ لتكريس هذه الصّورة من إجراءاتٍ سابقة للانقلاب وإجراءاتٍ لاحقة له، فمن الإجراءات السّابقة كان التّمهيد للانقلاب وضمان قبوله من أهمّ ركيزتين في المجتمع الدّمشقيّ والسّوريّ بشكلٍ عام، وهما التّجّار والعلماء.

بناءً على الرّوايات المتعدّدة التي كان يتحدّث بها الشّيخ أحمد كفتارو في درسه العام في مناسبات متكرّرة ولا سيما مع حلول ذكرى “الحركة التّصحيحيّة” من كلّ عام أنّ حافظ الأسد زاره قبل القيام بالانقلاب في السّادس عشر من تشرين الثّاني “نوفمبر” من عام 1970م واستشاره في موقفه فقال له الشّيخ أحمد: “إن لم تفعلوا أنتم هذه الخطوة فسنلبس نحن البدلة العسكريّة ونحمل البواريد ونقوم بها”.

بهذا الموقف كان يقدّم الشّيخ كفتارو نفسه وجماعته جزءًا من انقلاب حافظ الأسد وهو لا يخلو من التّذكير النّاعم لحافظ الأسد بفضله عليه في ترسيخ دعائم هذا الانقلاب.

وقد عمل حافظ الأسد على تكريس صورة هذا التّحالف في بدايات الانقلاب فكانت الصورة الأولى التي تتداولها له وسائل الإعلام عقب الانقلاب خارجًا من الجامع الأمويّ وعن يمينه الشّيخ كفتارو مارًّا بسوق الحميديّة الذي ارتفعت فيه لافتة مكتوب عليها من تجّار دمشق “طلبنا من الله المدد فبعث لنا حافظ الأسد”.

وهنا لابدّ من التأكيد على أنّ المؤسسة الدّينيّة السوريّة بمختلف جماعاتها وتياراتها قد استقبلت انقلاب حافظ الأسد بترحيبٍ بالغ، ولم يكن هذا حكرًا على جماعة كفتارو التي كانت متقدّمةً بخطوات على غيرها بوصفها صاحبة فضلٍ في المشاركة فيه وتكريسه واقعًا، وكذلك كان عموم المجتمع السوريّ مستبشرًا بهذا الانقلاب وبقدوم حافظ الأسد الذي اتّخذ خطواتٍ توسّع الحريّات في مجالات متعدّدة منها العمل المسجدي الذي شهد عصرًا ذهبيًّا في الفترة ما بين عامي 1970م و1973م.

كانت نقطة التّحوّل في العلاقة مع المؤسسة الدّينيّة مع محاولات تمرير دستور عام 1973م بعد حذف المادّة الثّالثة منه التي تنصّ على أنّ دين رئيس الدّولة هو الإسلام، وأنّ الفقه الإسلاميّ مصدرٌ رئيسيّ للتّشريع، فكانت المواجهة الأعنف مع علماء ومشايخ حماة وحمص إذ اكتست طابعًا جماهيريًّا من خلال المظاهرات والمواجهات مع أجهزة الأمن، أمّا علماء حلب ودمشق فكانت انتقاداتهم ضمن إطار المؤسسة الدّينيّة من خلال جمع التّوقيعات على بيان رافض باسم العلماء والتّحشيد المنبري للرّفض.

وفي وسط كلّ هذه المعمعة لم يكن للشّيخ أحمد كفتارو أيّ صوتٍ سواءً في إطار الاعتراض أو التّأييد، ولم يبدر منه أيّ موقفٍ تجاه تعديل الدّستور على الرّغم من أنّه المفتي العام ومنصبه يتطلّب موقفًا معلنًا غير أنّه آثر الصّمت.

تراجع حافظ الأسد عن إرادته وبقيت المادّة الثّالثة من الدّستور التي أوقعَته في ورطة، إذ إنّ عامّة علماء المسلمين من السّنة والشّيعة على حدٍّ سواء يعدّون الطّائفة العلويّة النّصيريّة التي ينتمي لها حافظ الأسد طائفةً غير مسلمة ولا صلةَ لها بدين الإسلام بأيّ شكلٍ من الأشكال.

اضطرّ حافظ الأسد للخروج من هذا المأزق للجوء إلى صديقه المقرّب المرجع الشّيعي الإمام موسى الصّدر الذي أصدرَ في تموز “يوليو” عام 1973م فتوى تنصّ على اعتبار العلويّين النّصيريين في سوريا ولبنان فرقةً من فرق الشّيعة الجعفريّة الإماميّة الاثني عشريّة.

في هذه الأثناء عاد اسم الشّيخ أحمد كفتارو للظّهور مجدّدًا من خلال تداول بعض الأقاويل تبنّتها بعض المقالات وهي أنّ حافظ الأسد ذهب إلى مكتب الإفتاء وأعلن إسلامه ونطق الشّهادتين أمام الشّيخ أحمد كفتارو، وهناك من راح يقول: إنّ الأسد أعلن إسلامه بين يدي الشّيخ كفتارو في الجامع الأمويّ في الزّيارة الشّهيرة عقب القيام بالانقلاب، وهذه الرّوايات على الرّغم من كثرة تداولها في الأوساط الشّعبيّة السّوريّة وأوساط شريحة من الكتّاب وورودها في عددٍ من المقالات غير أنّها لا تحظى بما يدعمها أو يقويّها من وثائق أو شهادات.

لماذا لجأ حافظ الأسد إلى الإمام موسى الصّدر لاستصدار هذه الفتوى ولم يلجأ لصديقه المفتي العام لسوريا الشّيخ أحمد كفتارو؟

وأعتقد عدم صحّتها وعدم صحّة أيّة رواية عن إعلان حافظ الأسد إسلامه بين يدي الشّيخ كفتارو لسببين؛ الأوّل: مثل هذا الخبر لا يمكن أن يكتمه كفتارو أو غيره بل إنّ مصلحة حافظ الأسد تكمن في تداوله ونشره وتعميمه، وهذا ما لم يفعله الشّيخ كفتارو ولم يرد عنه في شيءٍ من دروسه العامّة.

والثّاني: لو كان هذا صحيحًا لما احتاج حافظ الأسد إلى استصدار فتوى من الإمام موسى الصّدر ليخرج من مأزق تنصيص الدّستور على وجوب أن يكون دين رئيس الدّولة الإسلام.

والسّؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا لجأ حافظ الأسد إلى الإمام موسى الصّدر لاستصدار هذه الفتوى ولم يلجأ لصديقه المفتي العام لسوريا الشّيخ أحمد كفتارو؟

الأمر باعتقادي متعلّق بكون الطّائفة النّصيريّة في أصولها الاعتقاديّة ترجع إلى المكوّن الشّيعي العام، وإعلان أنّ الطّائفة كلّها جزء من الإسلام يحتاج إلى شخصيّة لها مرجعيّتها في المذهب الشّيعي، بينما كان كلّ ما يستطيعه أحمد كفتارو هو إعلان دخول حافظ الأسد في الإسلام وهو ما لم يكن الأسد يريده.

فهو أراد التّأكيد على أنّه هو وكلّ الطّائفة جزء من الإسلام أصالةً بمجموعهم وليسوا بحاجةٍ إلى أن يكونوا موضع نقاش متعلّق بانتمائهم للإسلام من عدمه.

  • انتهازُ الفرصة والفائدة المتبادلة

كان قدوم حافظ الأسد للسّلطة وتحالفه معه في الانقلاب وما أفسحه حافظ الأسد من مساحةٍ للحريّات عقب الانقلاب يمثّل فرصةً ذهبيّة للشّيخ أحمد كفتارو لتحقيق مكاسب للجماعة على مختلف الأصعدة.

كانت الخطوة الأولى التي اتّخذها هي تمتين البناء المؤسسي للجماعة من خلال تأسيس “مجمّع أبو النّور الإسلامي” مكان جامع أبي النّور ليغدو صرحًا كبيرًا يضمّ ثمانية طوابق تحتوي إلى جانب المسجد على معاهد شرعيّة ومقرّات لفروع كليّات شرعيّة تمّ تأسيس الكليّة الأولى وهي كليّة الدّعوة الإسلاميّة فرعًا عن جمعية الدعوة الإسلامية العالمية ومقرها في ليبيا، وفي عام 1989 افتتح فرع كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلاميّة، كما تأسّست الجامعة الإسلامية في باكستان عام 1989، وفي عام 1992 افتتحت كلية أصول الدين وكليّة الشريعة والقانون التّابعتان لجامعة أم درمان الإسلاميّة في السّودان. وافتتحت أقسام للدّراسات العليا تمنح شهادتي الماجستير والدّكتوراه من هذه الجامعات.

في دولةٍ مثل سوريا تحكمها القبضة المخابراتيّة العنيفة لا يمكن أن يكون افتتاح هذه الكليّات وتركها تعمل دون ترخيصٍ من وزارة التّعليم العالي اعتباطيًّا أو لوجه الله تعالى، وهو في الحقيقة يمثّل فائدةً متبادلة بين النّظام وبين الشّيخ أحمد كفتارو.

أمّا فائدة النّظام فتكمن في عدة أمور من أهمّها إضعاف مركزيّة كليّة الشّريعة في جامعة دمشق وهو ما حرص عليه حافظ الأسد من بداية حكمه من خلال القيام بإجراءات متعلقة ببنية كلّية الشّريعة من داخلها أو خارجها.

وكذلك إنتاج شريحةٍ من المتخصصين الشرعيين المصنوعين على عين المؤسسة المتحالفة مع النّظام، ومما يفيد منه النّظام أيضًا اللّعب على تناقضات المؤسّسة الدّينيّة وإبقائها في حالة الاحتياج إليه والشّعور بالتّهديد القانونيّ بالإغلاق مما سيدفع أركان هذه المؤسّسة إلى التّسابق فيما بينهم لتقديم فروض الطّاعة والولاء للنّظام.

وأمّا الفوائد التي يجنيها الشّيخ كفتارو من التحوّل المؤسّسي من المسجد إلى الصّرح العلميّ فأهمّها التّعويض عن انسحاب المؤسّسة من الامتداد الجماهيريّ الكمّي عقب الشّروخ التي أحدثتها المواقف السّابقة مع الدّكتور مصطفى السّباعي والشّيخ حسن حبنّكة الميدانيّ إلى الامتداد النّوعيّ في أوساط شرائح طلبة العلم الشّرعي ليكونوا ألسنةً ناطقةً بالثّناء على من تفضّل عليهم بالتعليم ويسهمون في إعادة الثّقل النّوعي للجماعة في الوسط الدّينيّ.

إضافةً إلى ما يحقّقه الشّيخ كفتارو أمام مريديه أولًا وأمام الآخرين من أبناء الجماعات الأخرى أو شخصيّات النّظام على حدّ سواء من تكريس صورة الجماعة بوصفها أهمّ بوابات العمل الإسلاميّ والدّعوي في سوريا.

إنّ استثمار الشّيخ كفتارو الفرصة السّانحة ليحقّق تحولًا نوعيًّا في بنية الجماعة ومؤسساتها يدلّل على قدرته على قراءة الواقع السّياسي المحيط به وقدرته على المناورة واستغلال الفرص وفتح الأبواب المواربة لخدمة الجماعة.

  • دبلوماسيّة الجنائز بين كفتارو والأسد

شهد العقد الأوّل من استلام حافظ الأسد الحكم ثلاث جنائز مهمّة، كانت الأولى عام 1973م وهي جنازة الشّيخ عبد الكريم الرّفاعي مؤسّس جماعة زيد وكان بينه وبين كفتارو قطيعة تامّة عقب ما اعتبرها الشّيخ الرّفاعي طعنةً غادرة من كفتارو للسّباعي وتعزّزت القطيعة عقب مواجهة الإفتاء بينه وبين الشّيخ حسن حبنّكة.

وفي عام 1978م كانت جنازة الشّيخ حسن حبنّكة شيخ الميدان وعنوان المواجهة الدمشقيّة مع حافظ الأسد في معركة الدّستور.

غاب الشّيخ كفتارو عن الجنازتين كما غاب عن مجالس العزاء بعدهما، وبعد انتهاء مجلس تعزية الشّيخ عبد الكريم الرّفاعي ببضعة أيّام لقي الشّيخ فؤاد شميس وهو من أعلام دمشق من العلماء التجّار الشّيخ كفتارو فسأله عن سبب غيابه عن جنازة ومجلس التعزية بالشّيخ عبد الكريم الرّفاعي فكان جوابه: “خفت الأولاد يؤذوني” ويقصد بالأولاد هنا تلاميذ الشّيخ عبد الكريم الرّفاعي.

غياب الشّيخ كفتارو عن جنازتيّ الرّفاعي وحبنّكة وما جرى من قبل في جنازة البرهاني يكشف حجم الشّرخ وعمقه، كما يكشف عن درجة الاحتقان العالية في أوساط المؤسسة الدّينيّة

وقد كانت تخوّفات الشّيخ كفتارو مبرّرة إذ حاول جاهدًا المشاركة في جنازة الشّيخ سعيد البرهاني الذي توفّي عام 1967م غير أنّ تلاميذ المشايخ المقاطعين لكفتارو حالوا بينه وبين الوصول إلى موكب الجنازة من خلال التضييق على سيارته ومنعها من المرور ممّا اضطرّه للرّجوع بعد عدّة محاولات للوصول باءت كلّها بالفشل.

غياب الشّيخ كفتارو عن جنازتيّ الرّفاعي وحبنّكة وما جرى من قبل في جنازة البرهاني يكشف حجم الشّرخ وعمقه، كما يكشف عن درجة الاحتقان العالية في أوساط المؤسسة الدّينيّة.

وفي عام 1979م قتل زاهر ابن الشّيخ أحمد كفتارو وكان في الثّانية والثّلاثين من عمره حين تعرّض لإطلاق نارٍ في بستانٍ في بلدة المليحة من غوطة دمشق وكان برفقته أخواه محمود الذي أصيب إصابةً بالغةً شفي منها لاحقًا وحسن الذي نجا.

دار لغطٌ كثيرٌ حول الجهة التي قامت بقتل زاهر، وهناك من حاول أن يشير بأصابع الاتّهام إلى النّظام بقتله وهناك من حاول إلصاق ذلك بجماعة رفعت الأسد، وكلّ هذا لا يعدو كونه استثمارًا للحادثة، وفي الحقيقة أنّ سبب القتل كان خلافًا على قطعةِ أرضٍ وملكيّتها بين زاهر وجاره في الأرض وهو من عائلة البويضاني الذي أودع سجن عدرا وحكم عليه بالسّجن بتهمة القتل إثر شجارٍ واللّافت أن هذا الرّجل قُتل في سجن عدرا قبل موعد الإفراج المقرّر بيومين.

ممّا يحسب لأعضاء الجماعات الأخرى سواء من جماعة زيد وجماعة حبنّكة اللّتين كانتا على قطيعة مع جماعة كفتارو مسارعتهما لتقديم التّعزية للشّيخ كفتارو ومشاركتهم في الجنازة.

غير أنّ المفاجأة كانت في حضور حافظ الأسد صلاة الجنازة ومشاركته فيها وتقديم التّعزية بنفسه للشّيخ أحمد كفتارو.

إنّ في تغيّب حافظ الأسد عن جنازتيّ الشّيخين عبد الكريم الرّفاعي وحسن حبنّكة الميدانيّ وحضور جنازة ابن الشّيخ كفتارو دلالةً واضحةً على وجهة النّظام التّحالفيّة داخل المؤسّسة الدّينيّة من جهة، وقدرته على استخدام دبلوماسيّة الجنائز لإيصال رسائله وتحقيق أهدافه، هذه الدبلوماسيّة التي لم يستطع الشّيخ كفتارو تسخيرها التّعامل مع بقيّة أركان المؤسّسة الدّينيّة.

ولكن كيف تعامل كفتارو مع الأحداث الدّامية في سوريا في الثّمانينيات، وكيف تعاملت الجماعة مع المواقف المختلفة وصولًا إلى وفاة حافظ الأسد ووراثة ابنه بشّار الحكم؟ هذا ما سنجيب عنه ــ بإذن الله تعالى ــ في المقال القادم.

(المصدر: سوريا تي في TV)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى